رامي زريق
تحرّكت الأسواق العالمية للأغذية، ومنها سوق القمح، فعلت الأصوات ومعها الشتائم: مجرمون، مصّاصو دماء! وتحرّكت الدولة ودعمت كارتيل المطاحن بمبلغ قدره 1،5 مليون دولار شهرياً بهدف احتواء الأزمة رغماً عن مبادئها الاقتصادية المناقضة.
والواقع أنّ الحكومات اللبنانية قد انتهجت، تاريخياً، سياسة تصفية القطاع الزراعي الذي ذاب في فقره، واستبدلت به سياسة الاستيراد الغذائي. ومن أهم أسباب تبنّي هذه السياسية أن مؤسّسي لبنان الحديث أتوا من طبقة التجار الذين يستفيدون من استيراد واحتكار المواد الغذائية الخام والمصنّعة والمدعومة من البلاد المنتجة. وبذلك أصبح لبنان بلداً يعتمد بشكل شبه كلّي على شراء مواده الغذائية، وخاصةً القمح الغربي المدعوم والذي أغرقت به الأسواق العالمية فدُمّرت الزراعات المحلية في أكثر من بلد نامٍ، فأصبح فاقداً لاستقلاليّته ولسيادته الغذائية.
ويستورد لبنان، اليوم، ما يقارب 80% من مواده الغذائية بفاتورة تفوق الملياري دولار سنوياً. وحسب منظمة الأغذية العالمية (FAO)، فإن أهم المورّدين للبنان هم: الولايات المتحدة أولاً، فرنسا ثانياً، وألمانيا ثالثاً. وليس مصادفة أن تكون هذه البلدان هي نفسها التي تؤثّر على القرار السياسي اللبناني من خلال الحكومة الحالية التي تتهافت لتوقيع اتفاقيات تبادل تجارية، كما حاولت وفعلت الحكومات المتعاقبة
سابقاً.
ليست أهداف تشجيع التبعية الغذائية اقتصادية بحتة. والأسواق اللبنانية صغيرة جداً ولا تشكل أي عامل اهتمام للتاجر الأجنبي أو لدولته، كذلك أضحت مقولة «لبنان نقطة عبور تجارية للعالم العربي» منذ الستّينيات، في مجال الأوهام، ولا يصدّقها إلاّ مَن لا يزال يعيش على أمجاد الماضي. و قد تحدّثت الباحثة رانية المصري بإسهاب عن آثار برامج المساعدات الغذائية الأميركية ودورها المتعمد في خلق التبعية الغذائية (مجلة الآداب، تموز 2007).
تترجم التبعية الغذائية أولاً، من خلال تكريس الإدمان على السلع الرخيصة، وخاصة الخبز، ثمّ التلويح برفع الأسعار العالمية، الأمر الذي يخلق ثورات الخبز التي تهدد بزعزعة العروش، ثم الإسراع بإغاثة تلك العروش من خلال إيجاد القمح الرخيص أو السماح بالدعم المشروط للزراعة والغذاء، على أن يكون المستفيدون من هذا الدعم بعض الرأسماليين لا الفقراء أو صغار المنتجين.
وتكتمل، عبر هذه السياسة الاستراتيجية التوسعية للبلدان الغربية فتزداد سيطرتها على القرار السياسي المحلي الذي توظفه في بسط نفوذها، بدون جيوش أو عتاد عسكري وبدون خسارة جندي واحد، لا بل بالربح الوفير للتجار والاحتكاريين المحليين.
ويترجم هذا الواقع عملياً في لبنان على الشكل الآتي:
ـــــ اتكل لبنان منذ الخمسينيات من القرن الماضي على استيراد القمح الرخيص الناتج من فائض الإنتاج المدعوم في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، وهو ممّا أدّى إلى هبوط حادّ في أسعار الدقيق في السوق المحلي، حيث أصبح سعر طحن كيلو القمح المحلي في فترة من الفترات يساوي سعر كيلو الدقيق المستورد: وهذا من رخص الدقيق لا من غلاء سعر الطحين.
ـــــ اختفت زراعة أنواع قمح الدقيق المحلي (مثلاً: الدوشاني) كلياً، تقريباً، في لبنان ولم تبقَ إلاّ زراعة أنواع قمح البرغل (مثلاً: السلموني أو البلدي) على صعيد محدود.
ـــــ تعوّد اللبنانيون على الدقيق «الأجنبي». ومن مزايا هذا الدقيق أنه ينتج عجينة بيضاء مطّاطة تصلح لصناعة رغيف رقيق وكبير، وأصبح الرغيف اللبناني الرقيق مرغوباً في كل بلاد الجوار. لكن لم يكن التفوق الصناعي اللبناني سبب هذا النجاح، بل القمح المستورد الناصع البياض.
أتت التحوّلات المناخية الناتجة من الاحتباس الحراري (الجفاف، التقلّبات المناخيّّة) والسياسات الغربية الداعمة لإنتاج المحروقات المستخرجة من الحبوب (biofuel) لتؤدي إلى انخفاض تدريجي في إنتاج القمح في العالم. و كانت النتيجة ارتفاع سعر القمح عالمياً و محلياً.
ليس فقدان السيادة الغذائية أمراً محتماً. ولا يزال المجال مفتوحاً لتغيير المسار الاقتصادي اللبناني؛ فعلى المعارضة اللبنانية أن تخرج من غيبوبتها الاقتصادية وتُعدّ برنامجاً اقتصادياً مقنعاً، تكون السيادة الغذائية إحدى ركائزه. فبعكس ما يصوّره بعض الاقتصاديين النيولبراليين، هناك خيارات عدة وليس فقط الخيار بين اثنين، كما قال مرّةً وزير الاقتصاد اللبناني «إمّا أن نفتح أسواقنا على مصراعيها أو أن تقع الكارثة في لبنان».
فها هي الأسواق مفتوحة والكارثة واقعة.