فداء عيتاني
يوم 14 شباط عام 2005 انفجرت عبوة بالرئيس رفيق الحريري. ومنذ ذلك الحين تغيّر وجه البلاد التي لم تعرف لحظة من الهدوء. انقسم اللبنانيّون، انشقّت البلاد، واتّسم الخطاب السياسي بالعنف. أصبح الشعار هو «الحقيقة» و«العدالة»، وأحياناً يشطح الشعار إلى «الثأر»، بحسب نسخة النائب وليد جنبلاط التي يطلقها في صراعه الموجّه نحو سوريا، لأنها القاتل المتّفق على إدانته سياسيّاً. ورغم ذلك، تتمّ ملاحقة قضيّة أحمد أبو عدس الذي ظهر في شريط فيديو بعد ساعات من مقتل الحريري، بصفته الانتحاري الذي نفّذ الاغتيال




اعتقلت مجموعة الـ13 على دفعات. بعضها اعتقل قبل عملية الاغتيال، والبعض الآخر بعده، وخاصة مع ملاحقة مسار أحمد أبو عدس. وبصمت مريب داخل غرف التحقيق، تمّ سحب الاعترافات من هؤلاء المعتقلين. المحامية مهى فتحة المكلّفة من دار الافتاء بالدفاع عنهم تقول إنّ الاعترافات انتزعت تحت التعذيب، وهي تشير إلى أنّ بعضهم بقي معلّقاً في السقف لعدّة أيام، فيما مُنع آخرون من استخدام المرافق الصحية لخمسة أيّام كوسيلة مبتكرة في التعذيب. كما أنّ «فيصل أكبر المصاب في معدته تعرّض للضرب على مكان الإصابة». وتضيف أن هؤلاء الشبان وقّعوا على اعترافاتهم من دون أن يقرأوها، وأحياناً من دون أن يدلوا بها.
إلى مقر لجنة التحقيق الدولية، سيق أعضاء مجموعة الـ13 عدّة مرات، «ست زيارات قام بها الشبان أمام المحققين الدوليين ورافقتهم فيها»، تقول فتحة، مضيفة أنّ «المحقق الدولي لم ير أنّ في اعترافات المجموعة ما يؤكّد ضلوعها في عملية اغتيال رفيق الحريري». وتوضح أنّه «تمّ عرض صور لمناطق اعترف بعض المتّهمين من غير اللبنانيين شمولها بجولات استطلاعهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من التعرف إلى الأماكن التي التقطت صورها، وكانت هي مواقع قريبة من مكان تنفيذ عملية الاغتيال».
منذ أسبوع تماماً، يقوم «فهود» قوى الأمن الداخلي بـ«غزوة» داخل سجن رومية حيث يتعرّض أكثر من 310 معتقلين للضرب المبرح، ولحلق اللحى والشعر. وكان التبرير هو محاولة فرار نفى حصولها أو التحضير لها وزير الداخلية حسن السبع. الشتائم والإهانات التي تعرّض لها المعتقلون والمحكومون، والتعرّض لمعتقداتهم وكتبهم المقدّسة، دفعت أكثر من ثلاثمئة منهم إلى الإضراب عن الطعام، ويرفض مدراء السجن تحويل أي من معتقليه إلى المستشفيات، ويتواصل إخفاء الحقائق، ويتواصل التكذيب العلني لما يعلمه الجميع ويضمره، فمن يريد الحقيقة؟
في وقت سابق من هذا العام، تمّ تحويل الأخوين نبعة (حسن ومالك) أمام القضاء العسكري ضمن مجموعة الـ13، والتهمة أصبحت معروفة: الانتماء إلى القاعدة وتشكيل تنظيم إرهابي، لكنّ محاضر التحقيق عملياً تحتضن قضية أخطر: اغتيال رفيق الحريري. فأين الحقيقة؟
شقيق حسن نبعة (ربيع نبعة) محكوم بالسجن المؤبّد لدوره في عملية اغتيال الشيخ نزار الحلبي، وقد لمّ شمله إلى جانب إخوانه في السجن، يوم الاثنين الماضي. وبحسب ما تفيد المحامية فتحة، استُدعي شقيق حسن (خضر) للمثول أمام مكتب مخابرات الجيش اللبناني. لبّى الشاب الاستدعاء، ولدى مراجعة المحامية للمخابرات أُفيدت بأنّ التوقيف تمّ بناء على طلب خاص من مدير المخابرات، من دون أن تحصل على إيضاحات أخرى.
الأربعاء، توجّه الشيخ أحمد، الشقيق الأخير من آل نبعة، إلى سجن رومية لزيارة شقيقه حسن، الذي تفيد المحامية أنه موقوف في زنزانة مع عملاء لحديين. كما أوقفت الأخ الأخير قوة من مخابرات الجيش من دون إبلاغ مسبقالمخالفات في سجن رومية لا تعد ولا تحصى»، بحسب المحامية فتحة التي كانت قد أكّدت أن مجموعة الـ13 هي من المقاومة العراقية. وتضيف أنه تمّ أخيراً منع مجموعة من أهالي المعتقلين الطرابلسيين من زيارة أبنائهم في سجن رومية «بحجة أن أوراق التراخيص للزيارة مفقودة»، علماً بأنّ والد نبعة قد طلب معاينة طبيب شرعيّ لولديه حسن ومالك بعد تعرّضهما للضرب في سجن رومية، وجاء الردّ بالموافقة، لكن بعد 14 يوماً من التاريخ الذي تقدم بهبعيداً عن هذه التطورات، وأمام اعترافات الشبان من المجموعة المعتقلة، ما الذي يجب أن نصدقه بعد تعطيل البلاد ووضعها على حافة حرب أهلية نتيجة اغتيال الرئيس الحريري والمسلسل الدموي الذي تبعه، هل هذه المجموعة بريئة من دم الحريري؟ أم أنها هي من نفذ عملية الاغتيال الشنيعة؟ وإذا كانت بريئة، فلماذا اعترفت بالعملية تفصيلياً كما سيرد لاحقاً؟ وإذا كانت هي من نفّذ، كما سنقرأ في الاعترافات في الأعداد اللاحقة، فلماذا حُوِّيلَت إلى المحكمة العسكرية من دون توجيه الاتهام لها بعملية الحريري، وبالتالي وضعها في خانة الضباط الأربعة المشتبه فيهم؟

رسالة حسن نبعة إلى المحكمة العسكرية

وبما أنه يحق لأي متهم الدفاع عن نفسه، فها هو حسن نبعة الذي يدخل إضرابه عن الطعام الأسبوع الثاني يكتب التالي في رسالة موجهة إلى المحكمة العسكرية في بيروت بشخص رئيسها نزار خليل:
«ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن أرى الظلم يتجسّد وقاحة تسمح لسجّاني استهوان الدوس على الكرامات، واستخفاف تمرير محاضر مزوّرة إلى أقواس عدالة لو أسمعت هُبلا ما قيل من كذب، لاهتز من تافه القول واضطرب!
وإني إذ أستميحكم عذراً على صلابة ما ستقرأون، سأدخل مباشرة في السبب لسجني مع المقاومين الجامعيين، لأخلص إلى أن القضية الراهنة بما تكتنزه من تجاوزات هي من اختصاص التفتيش القضائي ليس إلا!
السيناريو البديل والكبش القضائي:
بداية أرجع رئاستكم إلى إفادة فيصل أكبر (ص 54 ـــــ 58) حيث يعترف صراحة وبتفصيل دقيق، بقيامه بعملية تفجير موكب الرئيس الحريري» حيث يرد أني «أمير المجموعة»، وقد قمنا بعملية الاغتيال، بعد تخطيط يوافق بالضبط الرواية التي ذكرها المحقق الدولي ميليس في تقريره الأول! أما القرار الظني فإنه يعترف صراحة بدورنا في مقاومة الاحتلال الأميركي، وينسب لنا انتماءنا إلى تنظيم القاعدة، حيث قمنا بتكفير الحكومات والأنظمة، وعمدنا إلى زرع بذور الفتنة الطائفية!
ما سبق هو مقدمة لا بد منها لطرح الأسئلة التالية:
1ـــــ كيف يعقل أن يتم اعتراف رسمي من موقوفين بإقدامهم على جريمة اغتيال بعد سرد تفصيلي جد دقيق ومتطابق في جميع حيثياته مع تقرير لجنة تحقيق دولية، ومن ثم يخلص القرار الظني إلى اتهامنا بجنح مغايرة كلياً لمضمون الإفادات، ليس فيه من صحة غير إقدامنا على نقل سلاح إلى العراق بغرض مقاتلة المحتل؟
2ـــــ إن العادة تقضي أن تعمد الضابطة العدلية (والجهاز الذي أجرى التحقيق ليس من الضابطة العدلية!) إلى أخذ إفادات شفهية، ومن ثم تدوّّن الأقوال (وفق ما تشتهي) بعد التأكد من التسلسل المنطقي للروايات. فلماذا دُونت إفادة فيصل أكبر بمحضر رسمي، ومن ذا الذي أملى عليه تفاصيل هي من الدقة بمكان تسمح بتصديقها، ولا سيما أن الراوي غريب عن لبنان، ومن غير المنطقي أن يقوم بحبك رواية متكاملة بدقة عن أكبر عملية اغتيال منظمة يجري التحقيق بها من أجهزة دولية. وفي كلتا الحالين، فإما أن يكون الراوي صادقاً، وبالتالي وجبت محاكمتنا بتهمة اغتيال الرئيس الحريري، وإما أن تكون إفادته قد أمليت عليه لغرض جد خبيث، وبعد افتضاح الأمر جرت لملمته على عجل دون محاسبة من أساء استعمال السلطة وتعدى على حرية الغير دون حق (هناك أدلة على دخول فيصل إلى مشفى الحياة (باسم مزور) بعد خضوعه للتعذيب الشديد على يد فرع المعلومات).
باختصار إن إفادة فيصل أكبر وثبوت بطلانها يوجب تحقيقاً مطولاً، وهي مؤشر ذو دلالة على مجمل التحقيقات التي أجراها الجهاز نفسه. فمن يكذب في تدوين إفادة فلن تردعه نخوته عن حبك روايات بغرض تحضير «بديل قانوني» في لحظة اتفاق سياسي فوقي بين الويلات المتحدة وأذنابها في المنطقة. وأعطي محكمتكم الأدلة لتروا بعين العقل أن السجون خلقت لغيرنا.
اغتيال الحريري وربط المنفّذين بالمقاومة العراقية:
إن الويلات المتحدة الأميركية هي المنتصر الأوحد في إلصاق تهمة الاغتيال بالمقاومة للأسباب التالية:
• إن حجم إدانة جريمة الاغتيال حظي بإجماع قل نظيره، بالتالي فإن إلصاق التهمة بالمقاومة العراقية سيؤدي بشكل تلقائي إلى توحيد نظرة الإدانة لها وسيقلل من حجم المتعاطفين مع حركات التحرر، أكانت لبنانية أم عراقية. وهذا يشكل حفظاً لماء وجه الأميركي، والأميركي اعتاد على الإعلام في رسم صوره وتوصيف أخصامه ضمن خطة كسب العقول والقلوب.
• إن خصومة أميركا مع بعض الأنظمة هي خصومة ظرفية لأجل تحقيق مكاسب سياسية على المستوى الاستراتيجي، واستيلاد نموذج قذافي أخر.
والتاريخ الحديث شهد جرائم سياسية جمة جرى طمس حقائقها لغرض سياسي بحت. وأنا أسوق هذه الملاحظة من باب تأكيد أن السياسة تؤدي دوراً رئيسياً في مسائل قضائية ولو كانت المسائل تلك تجري على مسرح الغرب الذي يدعي الرفعة والتحضّر.
الحاصل أن أميركا بحاجة ماسة إلى دور حليفها البعثي اللدود، وندها الإيراني إذا ما قررت لملمة مخططاتها المبعثرة دماً ودماراً تحت ضربات المقاومة العراقية والخروج من أرض العراق بعدما أخرجها العراك من عقول أهل الرافدين وقلوبهم. وتسوية كهذه لا تتم من دون أثمان سياسية، لذا فإن محاولة إلصاق تهمة اغتيال الحريري بـ«الإرهاب الأصولي» لها أكثر من مستثمر، لكنها بحاجة لحبكة جد خبيثة بدأت منذ سنة ونيف عبر التسلسل التالي:
• منذ وقوع جريمة الاغتيال حاول القاضي النزيه عدنان عضوم إلصاقها بالحجاج الأوستراليين (الذين اعتذرت منهم السلطات الأوسترالية) عبر الإيحاء بمغادرتهم فور وقوع عملية الاغتيال وعلى ثيابهم آثار مواد TNT، ومحاولة تضليل التحقيق لما تنته بعد ثبوت بطلان المزاعم السالفة، فقد أكد ميليس في تقريره الثاني أن عضوم كان يصر على حرف اتجاه التحقيق ناحية الأصوليين وعدم إهمال ذلك الاحتمال وهو ما ذكره براميرتر لاحقاً عبر توسيعه دائرة الفرضيات.
والقاضي عضوم هو ابن باع في إجراء تحقيق نزيه، ولا سيما أنه بعد الإيقاع بالمناضل الأشم كوزو أوكوموتو صرح بأنه «لا جيش أحمر ولا أخضر عندنا» وراح يحاول تبديل المعتقلين، لكنه أخفق لكون العملية المخابراتية كانت مصورة.
• العبث بمسرح الجريمة، وهو جرم تم بأمر من القاضي رشيد مزهر، وهو القاضي عينه الذي أجرى التحقيق معنا، واحتجز أخي خضر نبعة لتسعة أشهر بالتوالي (ثم منع عنه المحاكمة) والغريب أن يكون القاضي عينه مشرفاً على مسرح تحقيقات خطيرة، وهو الذي فرط بمسرح جريمة كان تحت إمرته.
• تصريح أياد علاوي الذي زار الحريري قبيل اغتياله وفيه: «إن مخابرات حركة أمل أحبطت مخططاً لاغتياله في بيروت». وهذا التصريح على غرابته في التوقيت والمضمون، لم يتم الرد عليه نفياً أو تعليقاً حتى من قبل الأجهزة الأمنية الرسمية المولجة حماية علاوي (والمفترض أن تتمتع وحدها بمخابرات).
• التضخيم الإعلامي الذي تم يوم القبض على العميل محمود رافع، حيث سربت للعلن اعترافات عن ضلوعه في عمليات التفجير التي سارع أحمد فتفت إلى نفيها. والمهم في شبكة رافع هو معاونه «حسين خطاب» الذي حكي عن سجنه داخل سوريا وأُطلق سراحه تحت ضغط «مرجعيات» لكونه شقيق الشيخ جمال خطاب، المسؤول الإسلامي في مخيم عين الحلوة. ولإكمال التشويق المخابراتي فقد أرسل (رئيس الجمهورية) إميل لحود كتاباً للأمم المتحدة طالباً ضم جريمة اغتيال الأخوين مجذوب للتحقيق الدولي، ومن ثم صرح بأن التفجير اللاسلكي الذي تم في عملية اغتيال الإخوة مشابه تماماً لعملية اغتيال الحريري تنفيذاً وإخراجاً.
• صدور بيانات تكفيرية للشيعة، أرسلت عبر الفاكس، وصيغت بلغة بذيئة ركيكة، لكنها تضمنت أخطاء شكلية في الصياغة تسمح لأي ذي شأن اكتشاف صدورها عن أجهزة مخابرات (للمفارقة لم يتم تتبع المرجع الذي أصدرت منه البيانات).
• توقيف مجموعتنا المقاومة بعملية استخبارية بسيطة، وهي مجموعة نخبة مثقفين جامعيين ذوي اختصاصات هندسية وعلمية عالية، ومن ثم جرى تضخيم دور المجموعة رغم كونه علمياً (تشويش على أجهزة الدبابات الأميركية، تشفير معلومات وبيانات، إمداد مالي للمقاومة، نقل سلاح خفيف من بيروت إلى المناطق العازلة بين سوريا والعراق حيث إمكان اصطياد المقاومين سهلة إن لم يكونوا مسلحين). والتضخيم هذا لم يأت من فراغ، إذ جرى تعييني «أمير بلاد الشام». وجرى ربطنا بالزرقاوي (حيث يسهل حينها نسبة أفعال القتل الينا ضمن إسقاطات إعلامية جاهزة) والإيحاء بدورنا في عمليات اغتيال (على سبيل المثال يورد التحقيق الأولي أني قدمت إلى لبنان من سوريا في اليوم ذاته الذي جرت فيه عملية اغتيال جبران تويني، حيث وجد بحوزتي مقصوصة عن العملية مشار اليها بخط أسود).
• محاولة الإيحاء بانتماء مجموعتنا لتنظيم القاعدة العالمي، حيث يرد في التحقيق الأولي أن فيصل أكبر كان محضراً لعملية 11 أيلول (نعم هكذا)، ثم جرى حشر أسماء وربطها بي لأعلم لاحقاً أنها لمقاومين جرى إيقافهم إما في سجن أبو غريب وإما في معتقلات غوانتانامو (ما مبرر مثلاً إدخال اسم «لؤي السقا» في التحقيق، والإيحاء أنه بايعني، ثم أفهمت لاحقاً أن الرجل سوري موقوف في تركيا وقد قابله براميرتس. لتصريحات أدلى بها عن ضلوع مخابرات البعث في عملية اغتيال الحريري).
• المسؤول عن التحقيقات السالف ذكرها هو المقدم سمير شحادة الذي جرت محاولة اغتياله، ومن ثم جرى ترحيله للخارج دون ذكر أية معلومات عن مسار التحقيق في محاولة قتله. والمقدم شحادة كان مسؤولاً عن جهاز فرع المعلومات المحسوب سياسياً على فريق الحريري، ما يبدد أي شك بتلاعب في التحقيق أو تملعب في الاستنطاقات.
ما سبق هو عينات موثقة ومتقطعة لما كان يحضر في حال تم اتفاق سياسي فوقي على «ثمن» المطالب السورية ـــــ الأميركية في ظروف التسوية. أما المقرر فهو ضمن السيناريو التالي ذكره:
«تمكنت أجهزة الموساد من اختراق مجموعات أصولية متشددة، عبر زرع العميل حسين خطاب في مخيم عين الحلوة حيث يمكث الملاحقون الإرهابيون والفارون من وجه القانون. وقد تم الإيحاء للمجموعة الأصولية القريبة من عصبة الأنصار أن موكب إياد علاوي هو في طريقه للسان جورج، وأن اغتياله يكون من أكبر الضربات التي توجهها المقاومة العراقية للأميركان في الخارج. لذلك تم الاتصال بأمير بلاد الشام في القاعدة المدعو حسن نبعة (وهو ضالع في مجموعة الضنية الإرهابية التي اشتبكت مع الجيش اللبناني في عام 2000، وفر إلى السعودية) لتجهيز ما يلزم لغرض إتمام العملية. فقامت القاعدة عبر شبكة المهندسين الذين نتعاون معهم، باختيار المختصين بعمليات التشويش على أنظمة الحماية التي يتبعها الأمن، وأرسلت انتحارياً فجر نفسه بالموكب اعتقاداً منه أن إياد علاوي في داخله. وقد قام فرع المعلومات بقيادة سمير شحادة بالتحقيق الحيادي وتم اكتشاف أمرهم ووقعوا اعترافاتهم بملء إرادتهم».
وبذلك يكون ملف اغتيال الحريري قد طوي نهائياً لو نجحت عملية اغتيال شحادة (وأراهن أنه أجرى التحقيق وانتزع اعترافات كاذبة تحت التعذيب، إما لحساب الأميركان وإما لحساب المخابرات السورية). وبعد قتله تستطيع مخابرات البعث اتهام آل الحريري باغتياله لكونه اكتشف أن السوريين هم براء من عملية الاغتيال الكبرى. وبذلك، وبعد ضخ إعلامي موجه يستطيع «الجمهور» إزالة الترسبات والأحكام التي علقت في ذهنه، ولا سيما أن مبادئ التضليل تقوم على اختلاق جرائم كبرى لحجب جرائم أقل شأناً. ولأن النسيان هو من طبائع المرء، فإن إلصاق تهمة قتل الحريري بنا تكون سهلة الإقناع، ترضي كلّاً من الأميركي الجشع والبعثي الذي تخصص في فنون إلصاق الجرائم بالغير.
ولعل استدعاءنا إلى لجنة التحقيق الدولية، هو الذي أخّر الإخراج العلني لهذا السيناريو المزعوم، حيث تقضي الجدية والرصانة بمنع تلاعب كهذا. وما استبقاء أخي خضر نبعة لتسعة أشهر حبيس رومية إلا مؤشر ودليل على ما أقول: فالجهاز الذي احتجز خضر كان يرتعش إن أطلق سراحه وروى ما حاول البعض إلصاقه به، ومن ناحية أخرى فقد كان الجهاز متخوفاً جداً من أن يقوم جهاز المخابرات باستثمار ما دُبر بليل ولمّا يطلع عليه النهار (ولأن ما دون يصعب إلغاؤه، فقد أورد القرار الظني قدرتنا على تضليل التحقيق، وكأن القاضي الكفء يسهل تضليله). وأي متابع للتصريحات الأمنية يلحظ جلياً أن فرع المعلومات يحرص على نفي وجود ما يسمى قاعدة في لبنان، فيما يصر جهاز المخابرات على هذا الوجود.
إن الحديث عن حكومتين، وتعذر انتخاب رئيس، وضربات وشيكة لإيران، وخروج مبكر للمحتل الأميركي (سواعدنا كانت هناك، وعقول مهندسينا نفذت) كل هذا يجعل من إمكان الإتيان بكبش قضائي لمحكمة الحريري قائماً وجدياً.
لذا أستميحكم تقديم موعد محاكمتنا في أقرب فرصة ممكنة، حتى يظل ميزان العدل مستقيماً في أرضه المؤرجحة بين ثقافتي المقاومة والمقامرة.
كلمة أخيرة لا بد منها في ما نسب إلينا من «عمليات إرهابية» و«تكفير بعض الطوائف» والحكومات العربية.
ففي ما خص الحكومات العربية والأنظمة، فلا غرو من غرابة التهمة لأن أي متابع سياسي يعلم أن من يحكم المشرق العربي هم عائلات وأفخاذ قبائل، لا نستطيع التمييز بين الأرانب والملوك في ألقاب مملكة يحكي صاحبها انتفاخاً قصة الأسد. فمتى كان صراعنا مباشراً مع المحتل الأميركي فإن حجم قضيتنا هو أكبر شأواً من مقارعة الأذناب.
أما الإرهاب المزمع، فلا علم لنا إلا «بإرهاب اقتصادي» يمارسه المحتل مذ كان الاستعمار، ويحاول تغطيته بإرهاب عسكري تزرعه أدواته لتمرير أسواق تسلحه التي تشكل استثماراً اقتصادياً قاتلاً. وتعمية الحقائق عبر حجب الأخطار هو الإرهاب الفكري عينه. فكلفة الاستعمار الجديد في العراق بلغت حتى الساعة 500 مليار دولار أمريكي، وللمفارقة فإن خسارة الأسهم السعودية في بورصة وهمية بلغت في أقل من شهر 800 مليار من الدولارات. ومع ذلك فقد خرست الالسن وجفت الأقلام. أي إن المحتل الأميركي يأخذ بإرهابه الاقتصادي ثمناً لاحتلاله وكلفة مستقبلية لخروجه مطأطأ الرأس. ومع ذلك، فإن هناك من تسمح له كرامته حتى بالدفاع عن أنظمة كرتونية ليس لها في حسباننا محل».

رسالة مالك نبعة إلى النيابة العسكرية

أما مالك نبعة فقد وجّه سابقاً كتاباً إلى رئيس النيابة العسكرية في بيروت نزار خليل لإخلاء سبيله، نورده بصفته رده على ما نشرنا ويمثل وجهة نظره:
«سنة ونصف السنة مرّت دهساً لمعنوياتي وكسراً لعزيمة أبت إلا أن تكون شامخة، لهو من النكبات القاسيات، حيث يقضي العدل أن أحاكم ما دامت القضية التي قيضت حريتي لم تكن إلا قضية الأحرار إلى ما شاء الله. وأفيد جانبكم عن الأسباب الموجبة لإخلاء سبيلي:
1ـــــ إن التهمة غير المباشرة الموجهة لي هي مساعدة لوجستية للمقاومة العراقية بوجه محتل اغتصب أرض الرافدين محاولاً سرقة تاريخ دولة العباسيين بما تكتنزه من حضارة. وفي كلتا الحالين، فإني لم أنكر التهمة، بل هي شرف أعلقه على صدري في زمن التهافت ونقض المواثيق وأهمها وثيقة الدفاع العربي المشترك حيث يمرح الدستور مراحة بانتماء لبنان العربي. ثم إن التهمة تلك ليست حاجباً بيني وبين إطلاق سراحي، ولا سيّما أنّ لي مكان إقامة معروفاً، ما يسمح بإخلاء سبيلي بسند إقامة على
الأقل.
2ـــــ أما التهمة المباشرة فتتلخص في طيات القرار الظني عبر الادعاء «تأليف عصابة تمهيداً للقيام بأعمال إرهابية»، حيث بايع أفرادها «أنفسهم لأمراء تنظيم القاعدة الذي ينتمون إليه، وقد أقدم هؤلاء الأمراء لاحقاً على تعديل مهمتهم وتوجيهها إلى الأنظمة العربية لبعض الدول التي كفروها وبعض الطوائف اللبنانية، ثم يغمز القرار من قناة مقاتلتنا إلى جانب حركة طالبان عام 99 (مع أني لم أسمع بوجود ما يسمى طالبان قبل الألفية الثانية). إذاً، إن القرار الظني قد اعترف بنا مقاومين للاحتلال الأميركي ومن ثم استنتج خطورة الآنف ذكره، وعلى ذلك أجيب:
أما موضوع تكفير الحكومات، فهو من الوهن بمكان يدفعني إلى التذكير أن في العالم كله حكومة واحدة لا غير، هي حكومة الولايات المتحدة الأميركية، فمتى قطعنا رأس الأفعى في العراق فلا حاجة لنا النظر إلى الأذناب.
مما تبقى، أخلص إلى موضوع نقل السلاح إلى المقاومة العراقية، وعلى هذه التهمة أسطر الملاحظات التالية:
إن نقل مؤن لوجستية (عرفت لاحقاً أنها تحوي سلاحاً) لا يفترض سجني سنة ونصف السنة، حتى لو سلمت جدلاً بثبوت التهمة واعتبار فعل المقاومة أمراً مشيناً، ثم إن العدل يفرض أن يتساوى المواطنون في القانون. فكيف يعقل أن يعد مقاوم المحتل بطلاً يسلم له السلاح في مكان ومجرماً إرهابياً في مكان؟ وكيف يجوز أن يسجن اللحدي والقاتل الخسيس لشهور ومن ثم يلقى فضاء الحرية ويتقبل بطلاً موظفاً في بعض دوائر الدولة؟ أهي مقدمة خبيثة لدفع المقاومين للتناحر، أم هي بداية النهاية لكل المقاومين على السواء؟
إن نقل السلاح من لبنان لغرض مقاتلة المحتل هو عمل وجب مكافأتنا عليه، إذ إننا خلصنا اللبنانيين من أدوات حربية استعملوها بغريزة مقيتة للتقاتل والتناحر بينهم. فالأولى إذاً أن نسأل محكمتكم عن مصدر هذا السلاح للبنان؟ ثم إذا ما أردت العودة إلى التاريخ اللبناني للتساوي مع أقراننا، أفيد حضرتكم بأننا لم نكن مرتزقة استعملنا البعض بثمن للقتال في تشاد. ولم تدفعنا الغريزة صوب ناغورني كاراباخ. ولم نتجه صوب كوسوفو لأجل نصرة مجرم الحرب ميلوسوفيتش. نحن كنا عصبة الأخيار كل ساهم من عندياته بما اكتنزه من علوم ومعارف».



تعقيب من المحامية فتحة

جاءنا من المحامية مهى فتحة بوكالتها عن الشيخ حسن نبعة وفيصل أكبر ما يلي:
بما أنّ العناوين الكبيرة جاءت توحي للقارئ أن الأشخاص الواردة أسماؤهم في التحقيق لهم علاقة باغتيال الشهيد رفيق الحريري عكس ما جاء في التحقيق الأولي ـــــ غير النهائي ــــ الذي لم يحصل عليه وكلاء المذكورين، وخاصة أن التحقيقات التالية الأساسية النهائية التي جرت أمام لجنة التحقيق الدولية وقاضي التحقيق الرئيس الياس عيد حول التهم التي أُلصقت زوراً بالأشخاص المذكورين، وقد تمت تبرئتهم منها من قبلهما، فإن إعادة إثارتها بحلقات متسلسلة تعتبر إيحاءً لجمهور القراء بما لم يذكره التحقيق على نحو لا يخدم العدالة ولا الحقيقة وتقدم أشخاصاً شرفاء كبش محرقة للتجاذبات.
وبما أن ما نشرته جريدتكم يتعلق بقضية لا تزال قيد النظر أمام المحكمة العسكرية الدائمة قبل تلاوتها في جلسة علنية، الأمر المحظور قانوناً، هذا علماً بأن الشبان يحاكمون بتهم هم براء منها للنيل منهم لمساعدة إخوانهم في العراق وما ينالون من قتل وتخريب وهدم من قبل المحتل الأميركي وحلفائه بحجة الإرهاب، وبسبب ذلك أُوقفوا ويحاكموا... ولم يوقفوا ولم يحاكموا بالتهم التي حاولت تحقيقات صحيفتكم أن ترميهم بها، فلو وجد التحقيق الدولي أو اللبناني أي شبهة في ما رميتموهم لأوقفوا بسبب ذلك ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث وهو غير صحيح وكاذب.



تسعة أشهر للبراءة

يكتب مالك نبعة عن شقيقه خضر وباقي المعتقلين التالي:
«حتى أعطي محكمتكم دليلاً على عدم صحة ما نسب إليّ، يكفيني الإشارة الى أنّ أخي خضر نبعة احتجز في زنازين رومية لتسعة أشهر على التوالي حتى رزق بطفل منغولي اسمه البراءة ومنعت عنه المحاكمة. فإذا كان البعض قد استمرأ حبس حرية الآخرين من دون وجل من الحساب، فلا غرو أن ينسب إليّ ما هو مشين بهدف واحد أحد وهو تشويه سمعة المقاومة العراقية (مقدمة لتشويه سمعة المقاومة اللبنانية) وهو أسلوب بدائي ومبتذل الإخراج، يكفي دحضه عبر قراءة القرار الاتهامي بحق المقاوم إسماعيل الخطيب، حيث نسب إليه وقتها القيام بعمليات إرهابية ضد قوات التحالف في العراق، ومات سحقاً تحت التعذيب، وبقي السجان حراً يشمت فينا، نحن أسرى رومية. أما خضر فخرج من دون تهمة لأنه لم يكن أصلاً في المقاومة
العراقية.
ويتوزع المقاومون الأسرى بين طبيب جرّاح تبرّع لمداواة الجرحى المحمولين من العراق، ومهندس كمبيوتر، ومهندسيْ ميكانيك، وثلة من الفنيين ذوي الاختصاصات العلمية، فهل هذا يشكل نواة عصابة؟».
التكفير والعداء للشيعة

يكتب حسن نبعة ردّاً على اتّهامه بالتحريض على إحدى الطوائف اللبنانية التالي:
«أمّا موضوع التكفير المزعوم، فالظاهر أنه يعني المذهب الشيعي لكون البيانات التكفيرية الصادرة من أجهزة مخبرين تضمنت بذاءات بحق مرجعيات شيعية. لذلك أنا سأسلم جدلاً بكون تهمة انتمائي للقاعدة صحيحة، وأورد مقتطفات من أقوال الدكتور أيمن الظواهري (وهو من القاعدة الأصلية): «أطلب من الشيعة عدم الانخداع بالقول إن المجاهدين هم أعداء الحسين وأهل البيت... لو قدّر للمجاهدين أن يكونوا في زمن كربلاء لقاتلوا تحت راية الحسين». والظواهري كان صرّح في بداية حرب تمّوز بوجوب الجهاد الى جانب حزب الله، يوم كانت أنظمة السوء تسوّق عدم جواز الدعاء لحزب الله الشيعي في قتاله ضد الصهاينة، يوم كانت العمائم المستأنسة في بيروت تروّج للفتنة المذهبية بعد مسرحية الجامعة العربية، والتي كان الهدف منها جرّ البندقية اللبنانية المقاومة إلى أتون الزواريب الضيّقة. فمشايخ السلاطين لا همّ لهم سوى ضرب المقاومة أكانت لبنانية أم عراقية.
وأنا ـــــ كما إخوتي في ثورة العشرين ـــــ لن ننجرّ إلى مهاترات مذهبية، حتى ونحن تحت أقواس المحكمة، فالأصل أن تكون البيّنة على من ادعى (وما البيانات الحديثة التي تعلن انخراط كتائب الإمام علي وكتائب العباس في مقاومة المحتل إلا دليل على أن الصراع في العراق هو بين مقاومين وعملاء للاحتلال، إلى أي مذهب انتموا. ثم إن اتهامنا بالتحريض المذهبي يشابه تماماً اتهام حزب الله بإثارة النعرات الطائفية يوم استهدف (...) العميل عقل هاشم (الذي باركته وعدّته شهيداً مرجعيات عالية الكعب)، ومن زعم افتراءً نوايانا التكفيرية، فعليه إثبات تخرصاته لأنّه هو نفسه من ارتضى كذباً انتزاع اعترافات تحت التعذيب عن عملية اغتيال قمنا بها. ومن يكذب في مكان، لن تردعه مروءته عن استمراء الدجل، فما لجرح بميت إيلام».
وبالمقابل، يكتب مالك نبعة عن الموضوع عينه التالي:
«موضوع تكفير الآخر وإلغاؤه مستقى من قاموس استخباري واحد ينسب إلى كلّ مقاوم صفة الظلامي «التكفيري المغرّر به»، وهي لغة أربأ الإجابة عنها. لكنّ نظرة علمية بسيطة إلى أصول الصراعات تسمح لنا بالاستنتاج أن الصراع والتشاحن هو من سمة الحياة، إذ لا حضارة وتقدّم من دون صراع. إلا أن الدوائر الفكرية التي يتحرك بها المرء تعطي صورة عن وجهة الصراع وأركانه. فمتى كان محور الصراع إقليمياً تنازعت معه القوميات، ومتى كان قومياً توحدت معه الطوائف، ومتى كان طائفياً توحدت معه المذاهب، ومتى كان مذهبياً توحدت معه الملل والنحل. والقرار الظني ينسب إلينا تكفير طائفة من اللبنانيين من دون ذكرها (ومن دون وجود دليل أو شبهة)، فهو إما يقصد الطائفة المسيحية وإما الطائفة الشيعية (مع أن الشيعة ليسوا طائفة بل مذهباً ضمن طائفة المسلمين)، وأنا سأتغاضى عن ذكر أن زوجتي كما أصهرتي هم من الشيعة، وأجيب عن عدم منطقية التهمة بالآتي:
البينة على من أدعى، وسوق الاتهامات الطائفية ونسبتها إلى الآخرين هو التحريض الطائفي والمذهبي عينه، فالحكمة تقضي ـــــ إن كان الأمر صحيحاً وهو غير صحيح ـــــ أن يعالج الأمر بسرية وهدوء ومن دون إشعار الآخرين أن هناك خطراً يتهدد، فكأني بالقرار يثير في الطائفة (التي لم يسمِّها) ريبة الخوف من الآخر والحذر منه، ثم من قال إن الطوائف في لبنان هي موحّدة في ذاتها حتى يجوز إطلاق التكفير على طائفة بكلّها وكلكلها؟
ثم إن صراعنا كما هو مبين في متن القرار هو مع المحتل النزق الذي أذقناه علقم غسلين فكيف تصح بعدها تهمة التكفير؟ ففي خضم صراع كهذا لا يمكن إلا أن يكون بين طائفة المقاومين وطائفة العملاء لأي دين ومذهب انتموا. على كل أنا سأحسن بالقرار ظناً وأحسبه عن طائفة اللحديين (الذين يشاركوننا الزنازين عينها، ويتآمرون علينا). وعلى هذا أنا أقرّ وأعترف أننا كفرنا طائفة اللحديين أجمعين، لحديي لبنان والعراق على السواء.
وإن كان القرار ينسب إلينا تكفير المسيحيين أو الشيعة، فإنه يحمل في طياته ذماً مبطناً للطائفتين حيث نأى بهما عن مقارعة المحتل ووضعهما في خانة العملاء وهو في ذاته ذم لست مخولاً الدفاع عنه.
ثم إن تربيتنا علّمتنا أن نخالق الناس بخلق حسن، وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فحتى الكافر نفسه لست في أي حال مسؤولاً عن معتقده».


[الاثنين: متابعة نشر نصوص التحقيقات مع شبكة الـ 13]