إبراهيم الأمين
إذا كان البطريرك الماروني نصر الله صفير قلقاً للغاية من الوضع الذي تعيشه الحالة المسيحية كما يقول أحد المطارنة، فإن الوضع يبدو أكثر صعوبة ممّا يعتقد هو، وممّا يعتقد كثيرون، لأن ما ينقل عن لسان صفير يظل عاماً في ما يخص لعبة المواصفات والترشيحات التي لا تخرج منها أسماء أو علامات فارقة. لكن المطارنة من حوله يشكون من أمر يرون فيه خطراً كبيراً وهو كون الزعماء المسيحيين لا يتصرفون كأن بكركي موجودة، ونتائج الاجتماعات التي عقدت خلال الأيام العشرة الأخيرة، تحضيراً لاجتماعَي المعارضة والموالاة، كشفت عن هذه الثغرة الخطيرة، وأكثر ما يضايق صفير، بحسب المطران نفسه، هو مسارعة زوّاره إلى إطلاق التصريحات من على بابه وفيها ظاهراً «التزام حديدي» بما يراه هو لكون موقفه يمثل المصلحة الوطنية العليا للمسيحيين ولغيرهم.
لكنّ ذروة الاستهتار بما أراده صفير من الاجتماعات الأخيرة، جاءت من جانب جهات ليست محصورة بالقادة المتطرفين في فريق 14 آذار، بل من داخل الفريق الكنسي المعاون له، إذ إنه فيما كان المطران سمير مظلوم مكلّفاً من صفير متابعة هذا الملف، والقيام بالاتصالات اللازمة مع الطرفين، خرج من بين المطارنة من «يدعس» على الخط لألف سبب وسبب، حتى إن خبر اللجنة المشتركة التي قال صفير إنه سوف يعمل على تشكيلها لمتابعة الملف، لم تكن جاهزة في ذهن أحد بعد، وخصوصاً المطران مظلوم الذي تواعد مع القادة المعنيين في الطرفين على اجتماعات واتصالات تجري اليوم الاثنين أو غداً، وذلك للبحث في آلية عمل هذه اللجنة وأهدافها وطريقة تشكيلها. لكن قبل حصول أيّ من هذه الاتصالات توالت التسريبات عن اللجنة، أنها مؤلّفة من أربعة، بينهم من يمثّل فريق 14 آذار وهما الدكتور إلياس أبو عاصي (مسؤول في حزب الوطنيين الأحرار) وأحد مسؤولي حزب الكتلة الوطنية، قبل أن يُقال إنه جرى تكليف كارلوس إدّه نفسه لا أحد أركان حزبه.
وعند التدقيق في الأمر تبيّن أن أحد المطرانين يوسف بشارة أو بولس مطر هو من يقف وراء هذا التسريب. وهو أمر جرى بالتفاهم مع آخرين من أقطاب 14 آذار، وإذا كان في المعارضة من يتهم قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع بالأمر، فذلك ربطاً بالتباين الذي برز في خلال لقاء صفير مع قادة هذا الفريق، حتى إنه اضطرّ إلى الخروج لبعض الوقت من الاجتماع، ثم عاد وقال لهم: نحن نعمل لمصلحة جميع المسيحيين، لكن يبدو أننا نحتاج إلى لجنة مصالحة داخل فريقكم. وقد اضطر إلى قول هذا الكلام بعدما لمس تبايناً جوهرياً لا شكلياً، إذ توافق الرئيس أمين الجميل والنائب بطرس حرب على ضرورة دعم مرشح التوافق، (علماً أن حرب شدّد على النصاب) بينما أصرّ جعجع على القول إن خيار النصف + واحداً هو خيار حقيقي، وليس للتهويل، وهو أمر يؤيده فيه آخرون.
ويقول المعارضون إن جعجع يريد إفشال مبادرة بكركي المتعلقة بنصاب الثلثين، لأنه يعرف أن مؤدّاها الفعلي النزول عن الشجرة العالية التي صعد إليها جعجع ورفاقه من قادة 14 آذار، وأن نجاح المبادرة يتطلب قدراً عالياً من التنازلات، وقد التقى زعماء 14 آذار وفي يده ورقة قوية كان العماد عون قد سلّفه إيّاها قبل يوم واحد، عندما أبلغه أن ترشّحه للرئاسة ليس عقبة أمام الحل، لكنّ صفير لم ينجح في الحصول على مقابل من فريق 14 آذار مجتمعاً، بل وجد قربه مطارنة يسعون إلى إبقاء الوضع على حاله من الانقسام.
على أن المطران مظلوم سعى إلى تهدئة الأجواء، ولا يزال يصر على ضرورة الإفساح أمام جولة جديدة من الاتصالات، رغم أن تقويماً وصله بأن اجتماعات كالتي عُقدت كان يجب أن تنتهي بلجنة رباعية من الصف الأول، لا بلجنة على مستوى مندوبين قد لا يكون بإمكانهم بتّ أي أمر.
هذا في الشكل، أمّا في الجوهر، فإن الأمور تبدو معقّدة أكثر، وخصوصاً أن الأجوبة التي سمعها صفير من فريق 14 آذار لا تسمن ولا تغني من جوع، وكل ما قالوه له إنهم يستعدون للتوافق إذا كان في الأمر ما يناسب مصلحتهم، وقد أكثروا من الكلام عن مواصفات الرجل الاستقلالي وغيره من العموميات، علماً أن العماد ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجية تحدثا بإسهاب عن الوضع المسيحي عموماً وملف الرئاسة خصوصاً، وكانت صراحتهما مزعجة لبعض الحضور من المطارنة وخصوصاً مطران «قرنة شهوان» يوسف بشارة الذي لا يعجبه أحد من فريق المعارضة، ولا يزال متمسكاً بدعمه لمسيحيي السلطة. على أن ذلك لم يقفل الباب أمام حوار أكثر سلاسة، وخصوصاً عندما قال عون لصفير وللحضور: «أنا معنيّ بالتوصل الى حل، ولست هنا لأشترط دعم ترشيحي للرئاسة، وأنا أدعم ما يكون فيه الصالح العام». وكان واضحاً للحضور أن عون لا يربط مصير الرئاسة بدعم ترشيحه، وإن كان هو وغيره على اقتناع بأن أياً من مرشّحي 14 آذار لا يتمتّع بالأهلية الشعبية التي تتيح له تسلّم هذا الموقع، عدا الملاحظات عن السياق السياسي الذي يعيش فيه مرشحو فريق السلطة.
الأمر الآخر يتصل بموقف الفاتيكان، ورغم أن البعض تحدث عن استدعاء عاجل للسفير البابوي في لبنان لويجي غاتي إلى روما للتباحث معه في ما يجري، كانت الأنباء تتحدث عن أن السفير غاتي مضطر إلى الذهاب بغية إنجاز أوراق خاصة تتعلق بوفاة والده التي حصلت قبل نحو شهر. وتستعيد هذه الأوساط النقاشات التي جرت مع غاتي خلال الفترة الماضية، والتي كان لها دورها في ما انتهت إليه مبادرة بكركي، وخصوصاً أن السفير البابوي سمع كلاماً واضحاً ومفهوماً عن واقع المسيحيين اليوم، وصعوبة إعادة إنتاج صيغة تمثيلية لهم. وفي هذا السياق، يحاول جعجع التصدي لمقولة إن مسيحيي 14 آذار من صناعة الحليف المسلم، عبر أخذ الأمور الى المكان الذي يصبح فيه ترشيحه هو لمنصب الرئاسة تعبيراً عن تمثيل مسيحي حقيقي إذا كان هناك من يشكّك في الأهلية الشعبية للآخرين وتحديداً لكل من بطرس حرب ونسيب لحود. برغم كل أشكال النفي التي يصر عليها جعجع وفريقه حيال سعيه الى منصب الرئاسة، فإن الدوائر المسيحية الفاعلة، وبينها من هو قريب من صفير باتت تشعر بأن الأمر جدي، وأن هذا الموقف قد يفسر التصعيد الذي يستمر جعجع في اللعب عليه وتغذيته في وجه كل محاولة توافقية. علماً أن الضحية هذه المرة سوف تكون بكركي، والتي قد تفقد أي دور لها على الصعيد العام، إذ إنه ليس منطقياً ان تؤديّ بكركي دوراً توافقياً على المستوى الوطني وهي عاجزة عن تحقيق حد أدنى من التوافق على الصعيد المسيحي.