جان عزيز
أمر مؤكد وسؤال مقلق، هما كل ما بقي من مبادرة بكركي لمقاربة الاستحقاق الرئاسي المقبل، عبر آلية حوارية ما بين كل من مسيحيي الموالاة والمعارضة. المؤكد هو أن المبادرة ولجنة متابعتها المقترحة، باتتا اليوم في حال النزع الشديد. لا بل لم يتوانَ أحد أركان الموالاة عن نعيها غير المباشر في حديث صحافي اليوم، عبر تلميحه إلى أن «العديد من مبادرات السلام في العالم لم تنجح». أما السؤال الباقي عن الموضوع، فهو: كيف تقاطعت الحسابات والحسّاسيات بما أدى إلى إجهاض الخطوة، ومَن المستفيد منها، وما المتوقع بعد سقوطها؟
في الشق الأول تؤكد المعلومات ما بات معروفاً منذ أيام، عن قرار كل من «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، عدم المشاركة في اللجنة التي اقترحتها بكركي لمتابعة الفكرة. ورغم كل التفسيرات والتبريرات السياسية والأمنية التي أعطيت لهذا القرار، ظلت النتيجة واحدة، ألا وهي إفراغ اللجنة من مضمونها. ذلك أن الشكل المقترح في الأساس، لجهة أن تكون اللجنة رباعية، كان واضحاً أن الهدف منه الوصول إلى ما فشل اجتماعا بكركي في تحقيقه، أي جمع القوى المسيحية الأربع الأساسية في إطار حواري تشاوري واحد، لما في ذلك من غايات إيجابية على الصعد المارونية والمسيحية والوطنية، وفي قضية الاستحقاق الرئاسي تحديداً.
وإزاء إصرار قوى الموالاة على التغيّب، واتخاذ خطوتهم هذه طابع الإجراء النهائي المبلّغ إلى النائب البطريركي المطران سمير مظلوم، المكلّف من سيد الصرح متابعة الملف، تردد أن العماد ميشال عون يتجه في المقابل إلى تسمية ممثل له من خارج «التيار الوطني الحر»، كما تردد أن رئيس «تيار المردة» الوزير السابق سليمان فرنجية قد يلجأ إلى إجراء مماثل، أو إلى اعتبار مّن يسميه عون ممثلاً للطرفين المعارضين معاً. وتشير المعلومات إلى أن عون تريّث في اتخاذ هذا القرار، علّ إثارة الموضوع قبل أيام، تؤدي إلى تراجع طرفي الموالاة عن قرارهما بالتغيّب، أو علّها تدفع بكركي إلى مراجعتهما في الموضوع، لإقناعهما بالمشاركة، ضماناً لجدية الفكرة، وبالتالي حرصاً على حسن استمرار المبادرة البطريركية. غير أن اللافت أن أيّاً من الانتظارين لم يحصل. فلا القوات عدّلت في موقفها ولا الكتائب، ولا الكنيسة حاولت تبديل الاتجاه التمييعي للأمور. ومع ذلك تؤكد المعلومات نفسها أن عون سينتظر بضعة أيام بعد، حتى انتهاء البطريرك الماروني من انشغاله في أعمال مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق، المنعقد في عين تراز. بعدئذ يتوقع أن يرصد عون خطوات صاحب الغبطة، فإذا ما عمد إلى التدخل لدى الموالين لتغيير ما بات مبلّغاً، يبادر رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» إلى بناء المقتضى على ذلك. أما إذا تأكدت الأمور القائمة، فينتظر عندئذ أن يبلغ عون بكركي بممثله غير الحزبي، رداً على خطوة الموالاة.
أما في شق التساؤلات، فيعود البحث في الأوساط المعنية، إلى التركيز على مَن سعى إلى إفشال بكركي. بدءاً بتسريب خبر لقاء الصرح يوم الخميس الفائت، وصولاً إلى تسريب خبر لجنة المتابعة، وهي لمّا تزل مجرد فكرة جنينية. وتؤكد المعلومات نفسها أن مسألة اللجنة لم تكن مطروحة جدياً في اجتماعي الخميس والجمعة. ولم تكن متبلورة لدى أيّ من المعنيين بها. حتى إنها لم تذكر في الاجتماع مع ركني المعارضة، إلاّ على سبيل الفكرة للنقاش، بدليل أنها طرحت «على الواقف» بعد انتهاء الاجتماع، وفي شكل جانبي مع عون. والأمر نفسه تكرر في الاجتماع التالي. ليفاجأ الجميع في اليوم التالي بوصول الخبر إلى وسائل الإعلام، متضمناً حتى أسماء المشاركين فيها، قبل أن يكون الأقطاب المعنيون قد تبلّغوا، أو بلّغوا أي شيء حولها.
وهو ما دفع هؤلاء إلى التقصّي بدقة وإلى متابعة مصادر التسريب المشوّش. وتبيّن لهم أن أمراً من ثلاثة قد يكون خلف الخطوة، مع إمكان تزاوج أكثر من سبب منها. أولاً، أن يكون فريق الموالاة قد عمد إلى التسريب بخلفية التخريب على المبادرة برمتها. وذلك بهدف الإجهاز عليها، بما يضمن له ربح مزيد من الوقت وحرق كل الوساطات المطروحة، تمهيداً للوصول إلى فرض الأمر الواقع المعروف بعد 14 تشرين الثاني المقبل، على قاعدة الرئيس كيفما كان وبالنصف الزائد واحداً أو الناقص أكثر من واحد.
ثانياً، أن تكون القضية قد وقعت في مطب بعض الحسّاسيات القائمة داخل الصرح، على خلفية مَن المولج بالخطوة، ومحاولة تغيير مرجعيتها أو إفشالها. ولا يستبعد المعنيون أن يكون هذا الاحتمال مرتبطاً بمسائل بطريركية بالغة الدقة والحساسية، مما يعرفه الجميع ولا يتحدث عنه أحد.
ثالثاً أن يكون القيّمون على المبادرة، بعد اكتشاف حجم المأزق القائم وإدراك العجز عن الخروج بنتيجة إيجابية، قصدوا أصلاً ترك الأمور تتجه إلى هذا الدرك من الاهتراء، بحيث يتحمل السياسيون مسؤولية الفشل، ويتمكنون هم من الشهادة على طريقة: اللّهمّ قد حاولنا. علماً أن ثمّة ما يزكّي هذا الاحتمال، مثل التلميح غير الدقيق إلى أن السفير البابوي لا يزال يتابع المسألة في روما، فيما عُلم أن زيارة القاصد الرسولي إلى الفاتيكان مرتبطة بظرف شخصي عائلي على علاقة بوفاة والده، وهو لا يقوم بأي متابعة للخطوة البطريركية. علماً أن السفير نفسه يقوم بمسعى خاص، وهو ترجمه بسلسلة زيارات إلى عدد من القوى، من دون إعلام.
أيّاً كان السبب، يظل السؤال: مَن يستفيد من سقوط مبادرة بكركي؟ وماذا يتوقع بعدها؟ قد يكون الجوابان واضحين في مقولة فشل مبادرات السلام عبر العالم، وفي القدرة على الاستنتاج، ماذا يحصل عندما يُسقَط السلام؟