نجحت العائلات الفلسطينيّة خلال العقود الماضية في كسب ثقة المجتمع الشمالي صناعياً وتجارياً، وتوسعت خارج المخيم القديم بترحيب من أهل القرى المجاورة الذين سهّلوا لها التوسع عبر بيع الأراضي وقصد «الكامب» لقضاء معظم احتياجاتهم، لكنها تجد نفسها اليوم ضحية إذلال متعمّد. معظم هذه العائلات تخرج اليوم من مخيم البداوي باتجاه البارد بدفعات صغيرة حتى لا تثير «ريبة» أهالي المناطق المجاورة. وعلى مدخل المخيم الشمالي، يُستوقَف هؤلاء، فيفتّشهم الجيش ويتأكّد من تصريحات الدخول المعطاة لهم، وسرعان ما يجدون أنفسهم قبالة مأساتهم الجديدة.فبعيداً عن المخيّم القديم حيث اضطرّ الجيش إلى هدم كل المنازل وإحراق المنطقة بالكامل، تبدو الصورة في المخيم الجديد، وفي الأحياء المحاذية للطريق العام التي سيطر الجيش عليها بعد أيام قليلة من بدء المواجهات، غريبة وغير مبررة. فالكلام الفلسطيني عن سرقات وهدم وإحراق للمنازل بعد وقف المعارك، يبدو عند دخول المخيم الجديد شبه موثّق.
فعلى طول الطريق من المدخل الشمالي وحتى المخيم القديم، لم تترك الراجمات منزلاً واقفاً على أسسه يعلن هويته ويساعد في الاستدلال على جيرانه. ووسط دموع العائدين، تتراكم «صور النصر». هنا رجل مسنّ يبحث بين ركام مؤسسته التجارية عن قطعة حديد من الآلات التي كلّفته آلاف الدولارات. وهنا عجوز ترثي منزلاً صغيراً ودكاناً وضعت كل ما ورثته من زوجها فيهما، بعدما قررت الخروج من المخيم القديم خوفاً من التشنّجات الصغيرة التي تعصف به أحياناً. وهنا أمّ تحفر بيديها ركام منزلها، علّها تجد لعبة أو قطعة ثياب تستعيد عبرهما ابتسامة ابنتها التي فقدتها. ومن مسافة قريبة، يعلو صراخ صبايا مررن في اليوم الأول من توقف المعارك على الطريق العام وشاهدن منزلهن بحالة جيدة، وإذا بهنّ أمس يُفاجأن به ركاماً. تنتفض الصبايا ويتوجّهن بغضب صوب أحد العسكريّين الذي يشهر سلاحه بوجههنّ، طالباً الهدوء أو مغادرة المخيم.
يعود أقل من 10% من الفلسطينيين النازحين إلى المخيم الجديد في نهر البارد، إلى مساحة كان يعتقد أنها صالحة للسكن، وإذا بهم يكتشفونها أرضاً محروقة، مقطعة الأوصال، مبانيها مهددة بالسقوط، لا تصلها المياه ولا الكهرباء، ولا يتأمّن فيها ولو الحد الأدنى من شروط الحياة. وببرودة، تخبرهم الفصائل الفلسطينية ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني أن هذا الركام هو المنازل نفسها التي أمضوا السنوات يجمعون المال لبنائها وفرشها، و«يربّحونهم منيّة» العودة طالبين منهم «عدم الثرثرة» مع الصحافيين، ناصحين إيّاهم بغضّ النظر عن السرقات التي تعرضت لها منازلهم لعدم استفزاز الجيش.
وشمال «القدس» بمحاذاة الطريق العام مباشرة، في منطقة سيطر عليها الجيش بعد يومين فقط من اندلاع المعارك، يختفي الأثاث، كل الأثاث دون استثناء، من المنازل. تمزّق البرادي بشكل يؤكد تقصّد الفاعلين إلحاق الأذى بالمنزل وإذلال أهله. إذلال يبدو واضحاً في الكلام والشتائم التي كُتبت على الجدران. وفي السياق نفسه، عمد «الغزاة»، بحسب تعبير بعض سكان المخيّم، إلى إطلاق الرصاص على الغسّالات والبرادات التي لم يتمكنوا من أخذها، كما مُزِّقت الفرش بالسكاكين وطُعنت الخزائن من الداخل والخارج بقصد الأذى كما يبدو بوضوح.
واللافت أن الأشجار نالت نصيبها من الرصاص أيضاً، فقد أطلق مجهولون أكثر من عشرين رصاصة على عريشة قبل أن يحرقوها. كما عمد مجهولون إلى تكسير خزانات المياه بشكل منظم في المخيم الجديد الذي كان تحت سيطرة الجيش، والذي غادره أهله بناء لطلب الجيش نفسه، مقدّمين للعسكريّين مفاتيح المنازل التي استخدمت كمراكز عسكريّة متقدّمة، والمفارقة أنها وجدت بعد أشهر من شغرها محروقة ودون فرش. كما وجدت إحدى الحجّات أنّ الذين اقتحموا متجرها الصغير وعبثوا بمحتوياته، عمدوا إلى فتح علب الفوط النسائية، وتعليقها بطريقة غريبة على جدران المتجر.
ووسط رائحة الزيت المحروق التي لا تزال طازجة في المخيم الجديد، يتساءل الفلسطينيون عن سبب احتراق غالبية سياراتهم، وخصوصاً أن معظم هذه السيارات أحرقت بالمازوت ولم تصبها القذائف.
(الأخبار)