نقولا ناصيف
كلما قصرت الأيام الباقية من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تزايدت الآمال بالتوصل إلى توافق بين قوى 14 آذار والمعارضة على الرئيس الجديد، لكن من دون براهين وأدلة تعبّر عن صدقية هذا التفاؤل. بل يكاد التفاؤل يقتصر على رئيس المجلس نبيه بري دون سواه.
أمّا المعطيات الجدية حيال مصير الاستحقاق الرئاسي، فتصطدم بجبل من العقبات، لعلّ أبرزها:
1 ـ توسيع التعاطي مع المهلة المحدّدة لانتخاب الرئيس الجديد. قيل أولاً إن الانتخاب سيحصل في الجلسة الثانية لمجلس النواب (23 تشرين الأول)، ثم قيل في الجلسة الثالثة (6 تشرين الثاني)، ثم قيل في الجلسة الرابعة في اليوم العاشر الذي يسبق نهاية ولاية الرئيس إميل لحود (14 تشرين الثاني). والآن يدور كلام جديد يتخطى المواعيد تلك، متطابق في أوساط قوى 14 آذار والمعارضة على السواء، هو أن انتخاب الرئيس المقبل قد يُرجأ إلى ربع الساعة الأخير من الولاية الحالية، أي حتى منتصف ليل 24 تشرين الثاني المقبل. بل يقال أيضاً إن الانتخاب قد يتعذّر في المهلة الدستورية. الأمر الذي يعكس عدم استعجال طرفي النزاع لإجراء الانتخاب الرئاسي في ظل مطالبة كل منهما الآخر بتنازل جوهري عن شروطه المتصلبة. ويتصرّف كل من الفريقين كأنه لا يزال يملك مزيداً من أوراق المناورة التي تجعل زمام المفاجأة في يده وحده. فتقول أوساط الغالبية إنها تذهب إلى انتخاب رئيس بنصاب النصف الزائد واحداً وقد تسلّحت سلفاً بتأييد عربي ودولي يشجع هذا الانتخاب، وخصوصاً السعودية. وإذذاك يكون الاعتراف العربي والدولي بالرئيس المنتخب اعترافاً علنياً بأن المبادرة هي في يد قوى 14 آذار التي تمثل الشرعية الفعلية للبنان.
وهكذا، يقارب الفريقان المهلة الدستورية بلامبالاة وتجاهل، ويواجهان الاستحقاق على أساس أنه هدف سياسي أكثر مما هو دستوري، فلا يمرّ إلا مَن يتيقن من أنه سيُكسبه المعركة. وهو الخيار الذي تتجه إليه قوى 14 آذار عبر استنزافها المهلة الدستورية هذه.
2 ـ ما يبدو قاطعاً في أوساط الغالبية، في رأي قطب بارز فيها، أن ثمة اتفاقاً بين أركانها على عدم انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية بعد نهاية ولاية لحود إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مجتمعة، عملاً بالمادة 62 من الدستور. ويجزم القطب بأن قوى 14 آذار ستقدم على انتخاب رئيس للجمهورية بنصاب النصف الزائد واحداً خياراً بديلاً من الفوضى، ولأن وضع صلاحيات رئيس الجمهورية في عهدة الحكومة يضاعف من تهديد نواب قوى 14 آذار بالقتل لتقليص عددهم وتجريدهم من الأكثرية المطلقة، مما يجعل المبادرة عندئذ في يد المعارضة لانتخاب الرئيس المقبل في مرحلة لاحقة.
ورغم انطباع أشاعته قوى 14 آذار في الأسابيع الأخيرة، قال إنها ستنتخب رئيساً للجمهورية بنصاب الأكثرية المطلقة في 14 تشرين الثاني المقبل، سواء دعا بري إلى جلسة الانتخاب أم لا، فإن مداولات مغلقة بين أركانها تتحدّث عن عدم استعجالها الانتخاب في ذلك اليوم، بل ستنتظر الساعات الأخيرة من نهاية ولاية لحود لإجرائه، آخذة بنص المادة 74 من الدستور، القائلة باجتماع المجلس فوراً بحكم القانون لانتخاب رئيس جديد للجمهورية إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو «سبب آخر». وهي في هذه الحال تعتبر نصابها كافياً لملء المنصب الشاغر.
على أن الوجه الآخر لتأخير قوى 14 آذار قرارها انتخاب الرئيس بنصاب الأكثرية المطلقة، يعزوه القطب إلى انتظار ما يهدّد لحود بالإقدام عليه في الأيام الأخيرة من ولايته، بعدما أكثَرَ في الأسابيع المنصرمة من التلويح بأنه لن يترك حكومة السنيورة تضع يدها على صلاحيات رئيس الجمهورية. على نحو كهذا يأتي استمهال قوى 14 آذار تنفيذ تهديدها بالنصف الزائد واحداً مبرّراً مشروعاً ورد فعل قد يقدم عليه الرئيس الحالي، إذا أقدم.
3 ـ ثمة تناقض عميق في تعريف كل من قوى 14 آذار والمعارضة للتوافق. إذ فيما تقول الغالبية إن التوافق يكون على مرشح من صفوفها يمثل الضمانات التي تطلبها المعارضة، تقول هذه بانتخاب رئيس من خارج المعسكرين. الأمر الذي يضع الطرفين في حرج مؤداه أن أياً منهما لا يرى في مرشحي الآخر مواصفات الرئيس التوافقي. وتالياً يبدوان غير راغبين في انتخاب رئيس يشتركان في تزكيته.
مغزى ذلك أن قوى 14 آذار لا ترى التوافق المطلوب على رئيس من الطراز الثالث، المحايد، الذي لا وجود له، بل تذهب إلى الاعتقاد بالتوافق على التوازن السياسي الذي يقتضي أن يدير المرحلة المقبلة من الحياة السياسية في البلاد. مثل هذا التوازن يقتضي أن يأخذ في الاعتبار، في ظنّ قوى 14 آذار، معادلتين متلازمتين: أولاهما انتخاب رئيس من قوى 14 آذار في مقابل منح المعارضة الثلث المعطّل في مجلس الوزراء، وثانيتهما إبقاء السلاح في يد حزب الله لقاء رئيس للحكومة من قوى 14 آذار يتسلح داخلها بالأكثرية المطلقة من أعضائها. هكذا ينشأ توازن الحد الأدنى من التكافؤ. سلاح المقاومة يوازنه سلاح القرار الحكومي في يد قوى 14 آذار. وهي التسوية المثلى للمشاركة الأقرب إلى توازن مقبول، وتعايش غير متفجر وغير مضجر بين خطين لا يلتقيان.
والواقع أن موقفاً كهذا تصرّ عليه الغالبية يستمد قوته من تشجيع أميركي كان قد بلغ تكراراً إلى أركانها في أوقات متفاوتة، وأعيد تأكيده في اجتماعات رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري في واشنطن مع المسؤولين الأميركيين الأسبوع الفائت. إذ أوضحت واشنطن لزائرها الذي استقبل بحفاوة استثنائية الآتي:
ـ إطلاق يده وحلفاءه في الاستحقاق الرئاسي على نحو يؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية يستطيع التعاون مع رئيس حكومة من فريق الغالبية يُعنى بتعيين مسؤولين في المراكز الحساسة، وأخصها العسكرية والأمنية، من فريق الغالبية نفسها بغية سيطرتها على هذا الجانب من السهر على النظام والأمن والاستقرار والتحكم في مفاصل السلطة.
ـ لا تمانع واشنطن في توصل قوى 14 آذار إلى توافق مع المعارضة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولا يزعجها استنفاد المهلة الدستورية حتى أيامها الأخيرة لإتاحة الفرصة أمام تحقيق هذا التوافق، على أن تقدم قوى 14 آذار في نهاية المطاف على انتخاب رئيس من صفوفها بنصاب النصف الزائد واحداً ومنع الفوضى التي قد تترتب على فراغ دستوري في رئاسة الجمهورية.