إبراهيم الأمين
يرفض الرئيس إميل لحود الحديث عن خياره الخاص بمرحلة مواجهة الفراغ الرئاسي. ويناقش الأوضاع بصورة دورية مع قوى المعارضة، وسبق أن أبلغ قادة منها قبل مدة وجيزة أن الوقت لم يعد ملائماً لفكرة تأليف حكومة ثانية الآن. وفي ذلك إشارة منه إلى أن الأمور قد لا تكون حالياً في الشكل الذي كانته قبل بعض الوقت. ومع ذلك فإن لحود يصر على التكتم إزاء ما يمكنه القيام به في اللحظة الأخيرة، وهو حتى الآن استنفد خيارين: الأول الحصول على دعم تأليف حكومة مدنية مصغرة برئاسة قائد الجيش تتولى إدارة البلاد انتقالياً، والثاني تأليف حكومة ثانية برئاسة شخصية سنية معارضة باعتبار أن هناك نقاشاً جدياً حول الشرعية الدولية والخارجية لخطوة من هذا النوع.
لكن هل يبقى لحود في بعبدا؟
السؤال يبدو ساذجاً، غير أن البحث فيه ينحو صعيداً دستورياً وصعيداً سياسياً، وفي الحالة الأولى، النقاش هو حول تفسير المواد الدستورية المتعلقة بشغور موقع الرئاسة وانتقال الصلاحيات إلى مؤسسة دستورية ثانية. وفي هذا المجال، يبرز رأي قانوني ودستوري يقول إن المادة التي تتحدث عن انتقال صلاحيات الرئاسة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً في حال شغور الموقع، تعني حال وفاة الرئيس أو استقالته أو تعرضه لمرض يجعله عاجزاً عن القيام بوظيفته، لكن الأمر لا علاقة له بحالة الفراغ، بمعنى أن الشغور لا يحصل إذا لم يتم انتخاب رئيس جديد، وبالتالي فإن مبدأ استمرارية الحكم يفتح المجال أمام شخص الرئيس لأن يبقى في موقعه ريثما يتم اختيار بديل منه، وإذا قرر الرئيس نفسه الخروج من القصر والتخلي عن مهماته، تنتقل صلاحياته تلقائياً إلى حكومة قائمة أو يتولى هو تأليفها. وما حصل مع الرئيس أمين الجميل في نهاية ولايته، وقراره الخروج من الحكم وتسليم السلطات إلى حكومة ألّفها هو، لا يعدّ سابقة بمعنى العرف، بل إن القاعدة تقول إن الشغور هو فقط في حالة زوال الشخص الذي يتولى المسؤولية. وبالتالي فإن بقاء الرئيس لحود، مثلاً، في منصبه يمنحه صلاحية الإدارة الانتقالية ريثما يتمّ اختيار بديل منه.
ووفق هذه القاعدة، فإن بين الخبراء من يقول إن لدى رئيس الجمهورية الآن القوة التي تتيح له إصدار مرسوم باعتبار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مستقيلة استناداً إلى المواد الميثاقية التي تقول إن الحكومة الحالية فقدت مشروعيتها الميثاقية بفعل خروج وزراء يمثلون طائفة بأكملها. وهو سبب كاف لكي يصدر رئيس الجمهورية هذا المرسوم، وهو المرسوم الذي لا يحتاج إلى توقيع آخر غير توقيعه، كما أنه ليس ثمّة سلطة أخرى يمكنها النظر في المرسوم أو قبول أي طعن فيه. وبالتالي، فإن الرئيس يستند في هذه الحالة إلى أن الحكومة فقدت مشروعيتها الميثاقية ولا يمكنها أن تعيش أو تبقى بحجة أنها تتمتع بثقة المجلس النيابي لأنها ثقة سياسية. وهناك أمثلة على هذا الأمر، كأن يعلن رئيس الجمهورية بعد انتخابه بوقت، إشهار إسلامه، وبالتالي فهو يحظى بالثقة السياسية والشرعية الدستورية التي جعلته في موقعه، لكن الشرعية الميثاقية تسقط عنه لأن هذا الموقع مخصص لطائفة أخرى. وهي تماماً حال رئيس الحكومة إذا قرر أن يتحول إلى ديانة أخرى، أو أعلن الوزراء المسيحيون إسلامهم خلال وجودهم في حكومة تحظى بثقة المجلس، فيفقدون عندئذ الثقة الميثاقية.
الأمر الآخر الذي يتيح لرئيس الجمهورية إقالة هذه الحكومة أو اعتبارها مستقيلة هو مخالفتها الميثاق المشترك. وليس صحيحاً أنه يمكن تكبيل الخطوة هذه بما جاء في الدستور من أن الحكومة تعتبر مستقيلة في حال وفاة رئيسها أو استقالته أو استقالة ثلثي أعضائها أو انتخاب رئيس جديد أو انتخاب مجلس نيابي جديد أو حجب الثقة عنها، لأن هذه الحالات وردت على سبيل التعداد. وإلا فماذا يقال في حالة اتهام المجلس رئيس الحكومة بخرق الدستور أو ارتكاب جناية توجب مثوله أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؟. هذه الحالة لم ترد، وهي تتيح استقالة الحكومة أو إقالتها لأن رئيساً في حال الاتهام لا يمكنه الاستمرار في مهماته، وبالتالي فإن الحكومة في حالة مخالفة المواد الميثاقية تعتبر مستقيلة ويمكن رئيس الجمهورية أن يصدر مرسوماً باعتبارها مستقيلة، نظراً لأنه المؤتمن على الدستور.
وإذا كان الخبراء يعتقدون أن هذا الأمر واضح وقوي على الصعيد الدستوري، فإنهم لا يتجاهلون حالة الفوضى الدستورية التي سوف تواكب أي نوع من الفوضى السياسية، وإن إصرار فريق 14 آذار على كونه صاحب حق في انتخاب رئيس بنصاب النصف + 1، سوف يكون المدخل إلى حالة من الفوضى التي تتيح تفسيرات للدستور قد لا تكون متماسكة، لكنها قد تفي بالغرض لمن لديه مصلحة في ذلك العرض.
وعن احتمال أن يسمي لحود نفسه رئيساً لحكومة انتقالية، يلفت الخبراء إلى أنها خطوة خارج المساحة الدستورية، وهي نظرية غير متماسكة، لكنها تقوم على اجتهاد يقول إنه ما دام الرئيس لحود يقدر على إقالة الحكومة الحالية، فهو يقدر على الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة، وإذا قوطعت الاستشارات فإن ذلك لا يلغي مفعول استشارات من استُشيروا، وقد يخرج الرئيس بعد الاستشارات بنتيجة من اثنتين:
إما تسمية رئيس للحكومة من الطائفة السنية ويطلب إليه حل مجلس النواب لأنه لم ينعقد خلال دورة عادية كاملة، وبالتالي الدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة ومبكرة تتم وفق القانون المعمول به حالياً، وهو قانون الـ2000. وفي وسع الرئيس عدم مغادرة القصر الجمهوري حتى يصار إلى انتخاب رئيس بديل. أو أنه يتفق مع رئيس المجلس النيابي على أن حصيلة المشاورات قضت بترشيحه هو لمنصب رئيس الحكومة. وهذه الحالة تعتبر سابقة لا يمكن تغطيتها دستورياً ولكن هناك من سوف يقول إن خرق الدستور بدأ من جانب من انتخب رئيساً بنصاب النصف + 1، وبالتالي فإن خرقه مجدّداً بات مبرراً.
لكن النقطة الأهم تبقى تلك المتعلقة بوضع المؤسسة العسكرية في حال الفراغ، لأن رئيس الجمهورية سيظل القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإذا لم يُنتخب رئيس ولم تنتقل السلطات إلى أحد غيره، فقد يتصرف رئيس الجمهورية على أساس أنه لا يزال القائد الأعلى، وبالتالي فإن قائد الجيش مضطر إلى أن يأخذ بما يصدر عن القصر الجمهوري، وهو ما يفسر ضمناً قرار قيادة الجيش بالانسحاب من الشارع والانكفاء إلى الثكن وعدم أخذ الأوامر من أحد.
يبدو أن لبنان مقبل على «شوربا» دستورية!