جوان فرشخ بجالي
من الأشرفية إلى طريق المطار، ومن مفترق المتحف الى الجميزة وزقاق البلاط، ينشط علماء الآثار المتخصصون في حفريات الإنقاذ في إنهاء عملهم قبل البدء بتشييد الأبنية التي حصلت على التراخيص الضرورية. معبد روماني ضخم وميدان خيل ومقابر محفورة وأخرى مبنية ومقالع رومانية... ها هي بيروت تفضي بخبايا تاريخها الروماني

الخريطة الأثرية لمدينة بيروت تتوسع من الوسط التجاري شرقاً وجنوباً بسبب الضغط العمراني.
طلبات تراخيص البناء في تزايد في منطقة الأشرفية، وخاصة بعدما وُضعت ضوابط أمام الأبنية الشاهقة في منطقة الجميزة. فأنظار المستثمرين تحولت الى الأزقة التي لا تزال تحتفظ بهويتها العمرانية والاجتماعية. ولكن، وكالعادة في لبنان، لم تصمد الهوية أمام رأس المال. وبدأ تدمير البيوت القديمة غير المصنفة لتحل محلها أبراج ترتفع لأكثر من عشرين طابقاً. ولكن، وقبل أن تبدأ «الورشة» ولكي لا تتكرر المجازر الأثرية التي حصلت في وسط بيروت، يتدخل الفريق المختص بحفريات الإنقاذ التابع للمديرية العامة للآثار، ويبدأ النقاشات مع المستثمرين الذين سيقومون بتمويل الحفريات الأثرية التي تجري في فترة تقديم تراخيص البناء.
ويشرح أسعد سيف مسؤول الحفريات الأثرية في المديرية العامة للآثار أن هذه «الديناميكية في العمل بدأت سنة 2005 وتهدف أولاً الى إنقاذ المعلومات العلمية الأثرية عن بيروت. والفريق العلمي الذي يعمل تحت إشراف المديرية يستطيع أن يلبي طلبات البناء. فبين 2005 و2007 انتهى العمل في خمسة مواقع، ونحن اليوم نشهد ارتفاعاً غير مسبوق في طلبات البناء. فخلال الأشهر القليلة الماضية تلقينا أكثر من سبعة طلبات بناء معظمها في منطقة الأشرفية. ويحاول الفريق المؤلف من 35 طالب آثار ومختصاً تلبية هذه الحاجة».

معبد روماني في الجميزة

ومع توسع رقعة الحفريات الأثرية تتوالى الاكتشافات وتتزايد المعلومات العلمية التاريخية عن بيروت، وخاصة خلال الفترة الرومانية. فامتداد تلك المدينة التي كان يعيش فيها ثلاثة فيالق من الجيش الروماني، أي ما يزيد على 75000 جندي محترف، من دون عائلاتهم وعبيدهم وكل باقي أفراد المجتمع الذين يبنون مراكز عملهم قرب مراكزهم، وتتأكد كثافتها السكانية بنسبة المدافن المكتشفة أخيراً التي تمتد الى الجهات الأربع. ويشرح سيف أن الدراسة الأولية لتلك المقابر قد أظهرت أن طريقة الدفن كانت تستغل طبقة جيولوجية ممتدة في كل أرجاء المدينة ويطلق عليها علمياً اسم «رمل بيروت». وهي عبارة عن طبقة رملية حمراء ترتفع لعشرات السنتيمترات وقد اعتاد الرومان أن يحفروا داخلها ويدفنوا أمواتهم فيها. أما عن طرق الدفن، فتختلف من مقبرة الى أخرى. في بعض الأحيان استُخدمت النواويس الخشبية أو الرصاصية أو الفخارية، أو الحجرية... وذلك يختلف بحسب قدرة عائلة الميت الماديةوقد سمحت الحفريات التي نُفذت السنة الماضية باكتشاف أول مجمع ديني روماني في بيروت، وذلك في منطقة مار مارون في الأشرفية (عند تقاطع الجميزة ــــــــ التباريس). ويقول سيف «إن المجمع كان يضم معبداً وأبنية أخرى مجاورة له ومذابح خارجية. ويتمتع هذا المجمع بهندسة فريدة من نوعها في لبنان، فهو أول صرح روماني يعثر عليه في مدينة ساحلية، في حين أن كل باقي المعابد تنتشر في الداخل أو على الطرقات الجبلية. واكتشاف المعبد هذا لم يتوقف على حفريات السنة الماضية بل استكمل هذه السنة. فالفريق العامل في منطقة الصيفي عثر على جدران تعود الى ذلك البناء ويتم الآن العمل لإظهار الصلة وإتمام خريطة المعبد التي ستضاف الى خريطة بيروت الأثرية». وكان قد عُثر في منطقة وادي أبو جميل على ميدان سبق الخيل الروماني. حلبة السبق تمتد الى أكثر من 90 متراً ولا يزال يتوسطها الحائط الفاصل الذي كان يدور من حوله المتبارون. وبالطبع، وكباقي المواقع، ستُدرج دراسات هذه الحفريات في إطار منشورات وسط بيروت، ويضاف هذا المعلم إلى خريطة بيروت الأثرية وفي الوقت نفسه يُخلى العقار من كل المعالم الأثرية.
وهذا ما يعيد طرح السؤال عينه الذي كان متداولاً منذ أكثر من عقد، أي خلال حفريات وسط بيروت: هل تحافظ هذه العاصمة على أي من آثارها القديمة؟ لماذا لا يحق لمحبّي التاريخ في لبنان أن يزوروا المعبد الروماني في منطقة الصيفي أو رؤية المقابر في شارع لبنان أو غيرها من الاكتشافات؟ وما الفرق بين حفريات الأشرفية اليوم ووسط بيروت قبلها؟ يقول أسعد سيف «إنه لم يكن من الممكن المحافظة على المعبد لأن معظم حجارته كانت قد سُرقت في العصور السابقة والمعلومات العلمية التي استخرجت خلال الحفريات ستظهر أهميته التاريخية في المنشورات المتوقعة لسنة 2008»، ويؤكد أن هناك مختصين يعملون على الدراسات الهندسية والجيولوجية للمدافن والمعبد، وآخرين على الفخار والزجاج والمصكوكات لكل حفريات الإنقاذ التي جرت في بيروت خلال السنتين الماضيتين وستُنشر هذه المعلومات خلال الأشهر المقبلة.
ولكن ما يرضي علماء الآثار لا يرضي بالضرورة المواطنين. القيام بحفريات علمية وتوثيق المعلومات ونشرها في المجلات المختصة قد يشفي غليل أهل الاختصاص. ولكن هذا الإجراء لا يشبع حشرية المواطن غير المطّلع. فهو غير ضليع بقراءة المنشورات العلمية الأثرية ـــــــ وذلك حق له ــــــ ولكنه يريد أن يتعرف بتاريخ مدينته وأن يرى آثارها.
حتى الساعة، يبدو أن لا أحد في لبنان بحث في أطر توفير هذا الحق وأن يروي حب المعرفة لدى المهتمين بالآثار، وإلا لكانت المديرية العامة للآثار والفرق العاملة على الموقع أقامت معرضاً على العقارات وحيث تم الاكتشاف، وذلك بهدف اطلاع المواطن على الاكتشافات، أي تاريخه، قبل البدء بإزالة المعالم الأثرية وإخلاء الموقع من الآثار المكتشفة. ومن ثم يُخلى العقار من المعالم الأثرية ويُشاد البناء. وهذه الفكرة تشكل حلاً وسطياً بين تلبية رغبة المواطن والضرورات الأثرية العلمية وإعطاء تراخيص البناء. ولكن سيدفع المستثمر ثمن هذا الحل الوسطي إذ سيؤخر المعرض عملية البناء لأسابيع ويزيد كلفة الحفريات. وحتى هذا الحل لا يُبحث لأنه يبدو واضحاً أن تسهيل عمل المستثمرين من ثوابت هذا الوطن. ففي دولة تعطي لرأس المال كل الحقوق والتسهيلات، كيف يمكن التاريخ أن يصمد!



الورشة ستمرة

منذ أن بدأت حفريات وسط بيروت والجدل قائم حول ضرورة المحافظة على جزء من الآثار المكتشفة، وذلك من أجل الذاكرة الجماعية والهوية التاريخية، ولكن، وبعد أكثر من عقد، امتدت الحفريات من وسط بيروت إلى المناطق المحيطة وبقي الجدل قائماً والحالة هي
نفسها.
فرق من علماء الآثار تنقّب في المواقع بتمويل من أصحاب العقارات والمستثمرين وكأنما هناك اتفاق ضمني بين المديرية العامة للآثار وأصحاب العقارات والمستثمرين يقول إن الاكتشافات الأثرية لن توقف يوماً ورشة بناء. فكل العقارات تُخلى تحت إشعار أن الآثار المكتشفة ليست بالضخامة التي تستحق تحويلها الى موقع سياحي. وهذا ما يدعو للريبة.
إذ بين كل تلك الحفريات، لم يعثر بعد على أي معلم جدير بالمحافظة عليه في مكانه؟