ولادة المسيحية في الشرق وانقسام الكنائس ودور الإمبراطورية البيزنطية ومن ثم الكنيسة الكاثوليكية في واقع كنائس الشرق، كان موضوع المحاضرة التي ألقتها الدكتورة والمسؤولة عن الدراسات في المركز الفرنسي للأبحاث فرانسواز بريكل شانتوني في متحف الجامعة الأميركية في بيروت. وقد افتتح المركز هذا الأسبوع سلسلة محاضراته الشهرية. قدمت شانتوني شرحاً تفصيلياً لولادة كل من كنائس الشرق القديم والانقاسامات في علم اللاهوت التي كانت تؤدي في بعض الأحيان الى اختلاف حاد في الرأي بين المؤمنين قد يصل إلى حد العراك. ففي القرون الأولى بعد الميلاد، كان يحق لأي شخص أن يطرح أسئلة عن الدين: هل المسيح إنسان أصبح إلهاً بالقيامة، أم هو إله في جسد إنسان؟ وهل العذراء مريم هي أمّ الله أم هي أمّ عادية لا علاقة لها بألوهة ابنها؟».
وقد سبب الجدل اللاهوتي ولادةَ عدة كنائس في الشرق وترسيخ الشق في ما بينها أولاً، وبينها وبين كنائس أوروبا (البيزنطية ـــــــ والكاثوليكية) ثانياً. ولا يزال الشرخ قائماً حتى يومنا هذا. فهناك كنائس سريانية أورثوذكسية وكنائس سريانية كاثوليكية... والفرق بين الكنيستين هو أن الكاثوليكية تبعت خلال العقود الماضية منهج الكنيسة الكاثوليكية فانشقّت عن كنيستها الأم. وتعتبر الكنيسة المارونية من أقدم كنائس الشرق، وهي ولدت وكانت بتوافق تام مع تعاليم الكنيسة البيزنطية. وهناك نظريات تاريخية تؤكد أن الإمبراطور البيزنطي دعمها لمحاربة كنائس الشرق الأولى، وخاصة الأشورية والكلدانية. وأنشئت أول بطريركية معروفة للكنيسة المارونية في قرية يانوح في أعالي منطقة نهر إبراهيم. ويبقى التساؤل القائم بالنسبة إلى الكنيسة المارونية عن موقع الدير المؤسس لهذه الطائفة، وقد سكنه القديس مارون وأتباعه.
أما في شمال سوريا حيث تكثر الكنائس العائدة إلى الفترة البيزنطية فتظهر الدراسات الهندسية نمطاً معمارياً خاصاً بها، فتنفرد باستعمال نوع معين من الحجر، لونه رمادي استخرج من مقالع شمال سوريا، وقد تم النحت عليه.
وتقول شانتوني إن كنائس بلاد ما بين النهرين تعتبر من أقدم كنائس الشرق ومن الأقوى من حيث النفوذ الذي تمتّعت به، فمرسلوها أوصلوا تعاليمها الى بلاد العجم، والصين، ومنغوليا والهند... وبقيت كنيستهم قوية في كل من تلك البلدان الى أن وصل المرسلون الأوروبيون في أواخر القرون الوسطى وحاربوها. وكان أرباب كنائس بلاد ما بين النهرين يعتبرون أنفسهم أقدم في علاقتهم بالديانة المسيحية من كنائس أوروبا. وتشرح شانتوني الأمر قائلة إن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر القديس بطرس مؤسسها، ولكن كنائس بلاد ما بين النهرين تعتبر نفسها من سلالة النبي إبراهيم إذ إن مدينة أور تقع في جنوب العراق، بالإضافة الى أن بلاد ما بين النهرين هي حتماً الجنة المذكورة في الكتاب المقدس، وأن المجوس اعترفوا بألوهية المسيح 30 سنة قبل أي شخص آخر. لذا يرون أنفسهم الأعرق بين الكنائس، ناهيك بأنهم لا يزالون يتكلمون بالآرامية، أي لغة المسيح. ولكن، بطبيعة الحال، الحرب الحالية على العراق تهدد، من جملة ما تهدد، كل هذا الإرث الثقافي والديني الذي قد يزول بعد حياة دامت 2000 سنة تقريباً.