أنسي الحاج
أحاول أن أفهم تحالف الشيوعيين مع الأصوليّين. يقال: كلاهما مقاومة. ولكنْ أيّة مقاومة؟ الأصوليّة تقاوم الغرب وإسرائيل، الماركسيّة غربيّة مؤسّسها يهودي ملحد مشبع بالفكر الألماني والفرنسي والإنكليزي، على ما يشرح باختصار الأستاذ وسام سعادة في «السفير». أيّ قاسم يَجْمع بين عالمين متناقضين كهذين؟ حتّى لو تجاهلنا انقسام الماركسيّين عشرات الجبهات المتباعدة وأحياناً المتناحرة، وتظاهرنا بأنّنا لا نزال نراهم جبهة واحدة، كيف يكون شعار المقاومة هو ما ينضوي تحته المسلم المتمسّك بالدين والمجاهد في سبيل الله، والمادي الملحد المؤمن بحتميّة التاريخ والمتحدّر من ثقافة فلسفيّة وأدبيّة وتاريخيّة واقتصاديّة وسياسيّة هي، بالجملة والمفرّق، نقيض ما يقوم عليه الإسلام وما يدعو إليه؟ ودَعونا لا نصافح بعضنا البعض بشعارات الأخوّة والتساوي في دعاوى العدالة والحقّ. العباءة اللفظيّة فضفاضة غير أن الرداء الفلسفي دقيق.
بالطبع يمكن الحديث عن قواسم مشتركة في معاناة الحرمان. طبقيّة اقتصاديّة تقفز فوق حواجز التديّن والإلحاد، والروحانيّة والماديّة. لكنّه تبرير يتجاهل وجود حالات حرمان مماثلة لدى فئات أخرى من الشعب اللبناني (ومن الشعوب العربيّة) لا هي متديّنة إسلاميّاً ولا متمركسة. تبقى «الممانعة» في وجه القبضة الإسرائيليّة. هنا نرى «حزب الله» منسجماً مع نفسه وفي المقابل لا نرى الانسجام ذاته بين الماركسيين. لا بين الماركسيين كجبهات متباينة ولا بين الماركسيين والماركسيّة. وهنا تَحْسُن العودة إلى مقال الأستاذ سعادة (موجود وغيره للكاتب على موقع «شفّاف الشرق الأوسط» الإلكتروني).

الأصحّ أن نقول: الحزب الشيوعي، عوض الماركسيّة والماركسيين. المسافة بين الاثنين لا تزال تتسع وتتباعد منذ عقود.
أين تبدأ حدود التحالف بين النقيضين وأين تنتهي؟
أحياناً كان الشيوعيّون يحالفون فريقاً مختلفاً أو مختلفاً جدّاً ليبلغوا عن طريقه غاية تتجاوزه. وأحياناً كان الفريق المختلف أو المختلف جدّاً يحالفهم ليبلغ عن طريقهم غاية تتجاوزهم. والحالة الثانية مألوفة في العالم العربي.
قضيّة زاخرة بالمفارقات وتستحقّ النقاش المفتوح. يُفْهَم تفاهم العماد عون مع «حزب الله» من زوايا سياسيّة ووطنيّة عديدة وأمّا تحالف الشيوعيّين مع «حزب الله» ففي حاجة إلى وقفة. والأكثر أن المحتاج إلى التوضيح هم الشيوعيّون أكثر ممّا هو «حزب الله».

من مراجعة كلامي السابق ينكشف ما فيه من سوء نيّة. كأني لا أعرف ما يضطر حركتين متناقضتين مبدئيّاً أن تلتقيا أحياناً. في التاريخ شواهد كثيرة. وفي الحياة اليوميّة كذلك. نقطة ثانية تستوجب التفكير: سواء دعوناهم «حزب الله» أو حركة «أمل» أو عباس بيضون وشوقي بزيع ووضّاح شرارة، النهر الشيعي، بملحديه ومتديّنيه وضائعيه، هو منذ عقود أكبر بقعة في المجتمع اللبناني تموج بالحركة والمخاض والوعد والخيبة والخطر والعطاء والتحفّز. إنّها بين الفئات اللبنانيّة اليوم الأكثر مثاراً للجدل والأكثر تجادلاً بعضها مع بعض. قلّما تجد رضى تامّاً عن الذات بين النخب الشيعيّة. حتّى حالات القوّة والديناميّة تنطوي هنا على محاكمات للذات، على كآبات واستدارات. غالباً ما تذكّرني ظواهر كهذه بحالات مماثلة نجدها عند بعض مثقّفي اليهود، سواء في إسرائيل أو خارجها: تقريع الذات، مخالفة الأكثريّة، الاستهتار بالخوف، رغبة التكفير عن خطايا القبيلة... هذه المزايا لا تلغي عكسها، لا تحجب أمراضاً كالمبالغة في جَلْد الذات أو المبالغة في عبادتها.
لسنا في معرض هذا، بل في صدد البحث عن مناطق التقاء نقيضين كـ«حزب الله» والحزب الشيوعي. يجمعهما بحر التحوّلات، واحد صعوداً وآخر نزولاً. الصعود بالمعنى السياسي الظرفي والنزول بالمعنى الانكفائي الظرفي. يجمعهما التناقض. الأوّل تناقض الخطاب المعتدل والمنفتح لزعيمه مع الواقع الميداني لدولة «حزب الله»، والثاني تناقض سلوكه مع جوهره. ولكن هناك سمة غير عقلانية لا بدّ لي من بلورتها بهذا الوصف العبثي: من زمان والحزب الشيوعي في لبنان هو حزب الشيعة أولاً، كمجتمع محرومين ومضطهَدين، محرومون ومضطهَدون إلى حدّ باتوا معه خميرة لكلّ أنواع الانتفاض، إلى الأمام «التقدميّ» أم إلى الأحضان الدينيّة، ومرّات (لعلّها الأجمل، على الصعيد الأدبي والجمالي خاصة) إلى العبث.
هل يكون كلّ هذا التحليل بلا جدوى ويكون جواب التحالف بين النقيضين في المفتاح السوري؟ سوريا جمعتهما كما جَمَعَتْ قبلهما الحزب القومي و«حزب الله» فضلاً عن البعثيين؟ عندئذٍ لا يعود لكلّ هذا البحث معنى. ولكن إذا صحّ ذلك فأين المفاجأة؟ منذ ثلاثة عقود والنظام السوري يحتوي الشيء وعكسه، يُخرّج الشيء وعكسه، يستعمل الشيء وعكسه. إذا كان له حلفاء بين شيوعيي اليوم فإن لتذويب جثة فرج الله الحلو بالأسيد في محارق مخابرات عبد الحميد السرّاج روائح لا تزال وستظلّ ترفرف فوق بَرَدى الشاهد المقهور. نحن نتكلّم الآن نظريّاً عن التناقضات والتجاذبات التي مزّقت الشيوعيّين اللبنانيّين وقد ننسى أنهم دفعوا ثمنها من لحمهم الحيّ. هناك فرج الله آخر هو فرج الله حنين. وهناك جورج حاوي، وحكمت الأمين، وفؤاد الشمالي، ومهدي عامل، وسهيل طويلة، وحسين مروّة، وجلال المعوش. وغيرهم. أكثر مَنْ بطش بالشيوعيين العرب بالأمس هم حلفاؤهم. هل تتغيّر الحال؟ أم أن الشيوعيين العرب هم شيعة بالمعنى الكربلائي؟

لا نعرف أيّهما أفضل: الثبات على الموقف أم التغيُّر. لعلّ العبرة ليست في هذا ولا في ذاك، بل في الطبع. الثابت لا فضل له والمتغيّر لا ملامة عليه ولا حقّ له بالمفاخرة. إذا كان الهدف هو الحريّة فلا مفرّ من أن يترافق مع هاجس أخلاقيّ (فالحريّة هي إحدى مساحات الأخلاق). ولعلّ الهاجس الأفضل، في هذا الإطار، هو الأكثر وفاءً لا للمبادئ الأولى التي نُشّئ عليها المرء بل للحلم الأعمق الذي يظلّ يراود لياليه ويُضيئها. حلم يَصْهر الحقّ والسعادة في بوتقة واحدة، أرفع مقاماً من أيّ ضجيج، وحتماً لا يُلوّثه رياء السياسة ولا إغراء «الوصول».
لا يُحاسَب أحد إلا على مدى أمانته لهذا الحلم الشعلة، فهو ملْكُه بقَدْر ما هو شراكة بينه وبين رفاقِ دربٍ قد لا يعرفُ أحداً منهم. لا يعنيني الماركسي بانتمائه الفكري الأكاديمي بل بمأسويّة أمله، بشجاعة معارضته للتيّار، بمشاعره الإنسانيّة. لا يعنيني الحزب، أيّ حزب، لا «حزب الله» ولا الحزب الشيوعي، إلا بمقدار اندلاق معناه خارج كأسه. بمقدار جروحه الداخليّة وابتساماته على جروحه. كلُّ ما يَخضّ المستنقع يعني الحياة، كلُّ ما يتحوّل إلى مستنقع يعني الموت. المستنقع ليس الجمود فحسب بل التجميد أوّلاً. والنزول تحت مستوى الصدق والشفافيّة والشجاعة هو أحد العوامل الكبرى المؤدّية إلى الاستنقاع ثم إلى الجفاف فإلى التصحّر.

من معاني التحالف (أو التفاهم) بين العماد عون و«حزب الله» التعايش. ربّما كذلك بين الحزب الشيوعي و«حزب الله». نرجو ذلك ونؤيّده لأن السلام قبل الشعار، بالتحديد هنا شعار «العنف الثوري». لم يُمارَس هذا ولا مرّة في بلداننا. استُعمل ضدّ أصحابه وبدمائهم. وضدّ أهلهم ومجتمعهم ولحساب الضاحكين علينا جميعاً. هناك عنف واحد جرى أنهاراً منذ عقود هو العنف الانتحاري.
اسم الديموقراطية اليوم هو التعايش. التحاضُن. هذا ما رأيناه وأحببناه في تعاون التيار الوطني و«حزب الله». هذا ما قد يشفع للتحالف الشيوعي مع «حزب الله». التحاضن ضدّ الحرب الأهليّة، ضد الفخّ الطائفي. حتى لو بدا تحاضناً أخرق، عكس المنطق، فهو مباركٌ في الميزان الوطني أو الأصحّ الإنساني. غاية العقائد ليست النصر بل الحماية. حماية الإنسان من الظلم والمجتمع من الانهيار. غاية الغايات ليست الطغيان بل تعايش المتناقضات والأضداد والمتباعدات، تعايش الغرباء جميعاً داخل عالم لا حدود فيه غير السلام، فضلاً عن حدود عدم تجاوز فئة حدود قبولها للفئة الأخرى بدعوى تطويعها أو تبشيرها. نتباهى بلبنان يوم يَقْبل المسيحيّون والسنّة والدروز وجود الشيعة الملاحدة أو اللامنتمين وشيعة «حزب الله» دون نيّة مبيّتة. ويوم يقبل «حزب الله» الآخرين دون نيّة مبيّتة. وأن يقبل «حزب الله» إلحاد الشيوعي لا تضامنه معه في المقاومة فقط. والعكس. في هذا الصدق ضمان مجتمع صغير مركّب هشّ كمجتمعنا ضدّ نفسه وضدّ الآخرين.

تحت البرقع، وفي معزل عن الدم المسفوك، نستطيع إسقاط المعادلة نفسها على فريق 14 آذار. إن أفضل ما يجمعهم، بالإضافة إلى الروح السياديّة، هو التخالط الطائفي. لقد جَمَعَ دم الحريري ما لم يكن ليجتمع. جنبلاط ـــــ جعجع. جعجع ـــــ السنّة. خطوة أخرى ويتم الخليط التعايشي الأوسع بدون أي توتّر أو قطيعة. خطوة تحتاج إلى مَن يقدّم طموحه السلطوي هديّة إلى آخر أشدّ تمسّكاً بالسلطة، وحصوله عليها يقطع الطريق على الفتنة. مثل هذه الخطوة يتطلّب رجالاً. لا بل قدّيسين. لا بل أوادم يريدون لأنفسهم ولغيرهم العيش بسلام.
لقد أصبحنا جميعنا ألغاماً. حتّى الضحايا والشهداء. لن ينتزع لنا هذه الألغام إلّا نحن، أصحابها: هذا هو التعايش. هذه هي الديموقراطية.
على طريقهما، عن طريقهما، لا نلغي خصوصيّاتنا ولا تناقضاتنا، بل نستعين بها على الضجر من الذات.