جان عزيز
بعد غداء 29 تموز الماضي، يعود أقطاب طاولة الحوار اللبناني إلى قصر الصنوبر مساء اليوم. الفوارق قليلة كمّاً بين اللقاءين. غير أن دلالاتها قد تكون أكثر عمقاً ودلالات جوهرية. في الشكل، ووفق مصادر الجهة الداعية والمنظّمة، ينتظر أن يغيب رئيسا المجلس النيابي والحكومة، كما الأمين العام لـ «حزب الله». لينوب عنهم كل من النائب سمير عازار والمستشار محمد الشطح والوزير المستقيل محمد فنيش. فيما أكد الأقطاب الآخرون حضورهم من دون استثناء.
وفي الشكل أيضاً، لن يكون وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير وحيداً في مواجهة الساسة اللبنانيين. ليكون إلى جانبه نظيراه الإيطالي والإسباني. لكن الأهم، وفق الأوساط الدبلوماسية الداعية، أن الوزراء الثلاثة لن يكونوا مستمعين، كما كان كوشنير في غالب الوقت إبّان اللقاء الأخير. بل سيكون لهم كلام كثير، وتكاد الأوساط نفسها تجزم أنه سيكون لهم كلام كبير وخطير. ذلك أن المناسبة، كما تؤكد الجهات الدبلوماسية الأوروبية المعتمدة في بيروت، أريد لها أن تكون الإطار اللبناني الجامع لإبلاغ رسالة أوروبية مشتركة، لا بل موحّدة. وعنوانها الأبرز: إن حكوماتنا ودولنا متخوّفة جداً من فراغ رئاسي قد يحل في لبنان بعد 35 يوماً. وسيشدد الوزراء على مسامع المسؤولين اللبنانيين على قلقهم، من أن هذا الفراغ سيؤدي فوراً أو سريعاً إلى انقسام. والانقسام لن يلبث أن يُنتج الفوضى. والفوضى عواقبها مفتوحة على كل الاحتمالات، وخصوصاً الأمنية منها.
وتؤكّد الأوساط نفسها أن أعضاء الترويكا الأوروبية سيتوجهون إلى الأقطاب اللبنانيين بما يشبه كلام التحذير والإنذار. ولا تستبعد أن يطلق كلام من نوع: «إن أحداً من حكوماتنا وإداراتنا لا يمكنه تحمّل مسؤولية بلد قرّر مسؤولوه الانتحار الجماعي». وإذا كانت الكليشيهات المنتظرة باتت معروفة، من نوع ضرورة حصول الاستحقاق الرئاسي، وأن يكون وفق الدستور وآلياته، وأن يتم ضمن المهل الدستورية، وأن يؤدي إلى أوسع وفاق لبناني حول الشخص المختار، فإن الأوروبيين، كما تؤكد الأوساط نفسها، لا يملكون أي رؤية محددة، ولا أي طرح عملي، رغم الكلام همساً عن اسم مرشح يفضّلونه ويتمنون تزكيته. غير أن واقعية الزوار الثلاثة وإدراكهم للتعقيدات اللبنانية في الموضوع الرئاسي، سيفرضان عليهم عدم الدخول في هذه المتاهة.
وفي المقابل، بين تحذيرهم الواضح لأقطاب الحوار وتحميلهم مسؤولية ما قد يطرأ، وبين العجز المنطقي عن إحداث ثغرة في هذا الجدار، ترجّح الأوساط نفسها أن يقوم وفد الترويكا بخطوات ثلاث إضافية، جانبية مساعدة أو بديلة.
الخطوة الأولى ستكون في اتجاه بكركي، حيث تعتقد الجهات الدبلوماسية نفسها أن الوزراء الثلاثة سيحاولون ممارسة ضغط معنوي وأدبي ضمن أقصى الحدود الممكنة، على البطريرك الماروني، وحثّه وتشجيعه وحتى تحريضه، على «التورّط» أكثر في معضلة الاستحقاق الرئاسي المقبل. ولا تستبعد هذه الأوساط أن يحاول الزوار الأوروبيون إقناع سيد الصرح بالدخول في لعبة أسماء المرشحين مباشرة. لا بل ثمة أجواء سائدة لدى الأوروبيين بضرورة أن يبادر صاحب الغبطة، وفي توقيت زمني ملائم، إلى عرض اسم أو أكثر، ممّن يرى أنّهم مؤهّلون لتجّنب المأزق، وأن يعمد إلى دفع الحالة السياسية إلى تبني واحد منهم رئيساً.
أما الخطوة الثانية، فستكون في اتجاه رئيس المجلس النيابي، في محاولة منهم لزيادة منسوب تفاؤله المرتفع أصلاً هذه الأيام. وتعتقد الأوساط الأوروبية في بيروت أن مروحة الطمأنة التي ستستعملها الترويكا في بحثها مع نبيه بري لن تكون ضيقة. ففيها الإشارة إلى حلحلة أميركية، كان بري نفسه قد لمسها من لقائه مع جيفري فيلتمان قبل يومين، وسيسعى الوزراء الثلاثة إلى تزكيتها بكلام ديك تشيني عن «الأصول والأعراف الدستورية» لانتخاب رئيس جديد، وبكلام وليد جنبلاط من واشنطن عن تسوية ما، وبسواها من الإشارات الأميركية المباشرة أو الملتوية. وضمن المروحة الأوروبية نفسها إشارات سورية، قد يكون مداها الأرحب لوزير الخارجية الإسبانية الذي زار دمشق أواخر تموز الماضي، والذي تتولى عاصمته أداء دور دقيق في مسألة مزارع شبعا. إضافة إلى اتصال كوشنير بنظيره السوري.
ومن الإشارات المطمئنة أيضاً، التي ترجّح الأوساط الدبلوماسية استعمالها من جانب الترويكا الزائرة، وخصوصاً أنها تدرك وجود صدى لها لدى بري، رسم صورة كاملة لأوضاع المنطقة من العراق وتركيا وما بينهما، وصولاً إلى لبنان وما حوله، للتلميح إلى أن الوضع الإقليمي ليس مقفلاً لبنانياً، وقد يحمل فرصاً يجدر التقاطها.
لكن الأوساط الدبلوماسية نفسها، ورغم كل ما سبق، ترجّح أن يلجأ الوزراء الثلاثة إلى خطوة أخيرة، هي الوحيدة المصنّفة ضمن خانة الخطة البديلة، أو إجراء التأمين الضروري. والمقصود بذلك البحث مع «حزب الله»، وفق القنوات الممكنة والمتاحة، في الأوضاع المرتقبة للقوات الدولية العاملة في الجنوب. وهذا البحث يقصد منه جانبان. واحد راهن دائم، وعنوانه حماية هذه القوات من الخطر الأصولي الذي يتهددها. وثانٍ يُخشى من وقوعه، وهو كيفية استمرار عمل هذه القوات، في حال الوصول إلى المحظور، أي إلى الفراغ الدستوري وتداعياته. وليس تفصيلاً أن يكون بين وزراء الترويكا الزائرة، ممثلون للوحدتين الكُبريين العاملتين ضمن اليونيفيل، أي كل من وزيري خارجية فرنسا وإيطاليا، إضافة إلى ممثل الوحدة التي استُهدفت فعلياً بعمل إرهابي في الجنوب اللبناني، وهي الوحدة الإسبانية.
باختصار، تحمّلوا مسؤولياتكم، ثمّة فرص متاحة للحلول أمامكم، وإذا أردتم الانتحار فاسمحوا لنا بالبحث في كيفية عدم نحر جنودنا معكم... هكذا تبدو رسالة أوروبا في بيروت اليوم. ففي 29 تموز الماضي، قال كوشنير: «من الضروري أن يكون المرء مجنوناً كي يأتي إلى لبنان». في 20 تشرين الأول سيقول ونظيراه لنا: إن لم تسمعوا منّا، فمجنون يكون مَن يبقى في لبنان...