نقولا ناصيف
دون انتظار عودة رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط من واشنطن والنتائج التي يحملها معه، عاود رئيس المجلس نبيه بري ليل أمس مع رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري الحوار في جهود التوافق وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بأوسع تأييد وطني. وفي ظل تناقض تعريفَي كلّ من قوى 14 آذار والمعارضة لمفهوم التوافق، فإن الحلقات الجديدة من حوار بري ـــــ الحريري تدخل في سياق وضع السكين في اللحم الحي مرتين على الأقل: أولاهما الخوض الجدي في الأسماء التي ينطبق عليها التوافق لتصفيتها وإخراج واحد منها ينتخبه النواب رئيساً توافقياً، وثانيتهما أن فريقي النزاع سيدخلان بعد 23 تشرين الأول المرحلة الساخنة من المهلة الدستورية الآخذة بالتناقص، من غير أن يتبادلا حتى الآن إشارات تنبئ برغبتهما الفعلية في الاتفاق. وهما يجعلان من ظاهر موقفيهما من التوافق مصدر الاشتباك السياسي، وهو أن قوى 14 آذار ترى التوافق بانتخاب رئيس من صفوفها، وقوى 8 آذار تراه باستبعاد مرشحي الفريق الآخر دون استبعاد مرشحها الرئيس ميشال عون.
وهكذا يقع الطرفان، ويوقعان معهما المهلة الدستورية في المأزق. على أن ما سيحوط بالجولات الجديدة من حوار بري ـــــ الحريري، يرتكز على معطيات منها:
1 ـــــ مدى التزام الحريري في مداولاته مع بري الاتفاق الذي كان قد أبرمه أركان قوى 14 آذار قبل أشهر، والقائل بأن أي قرار يتخذونه يكون بإجماعهم تفادياً لنشوء توازن قوى من داخل هذا الفريق يعرّضه للضعف إذا تباينت مواقف بعض أفرقائه تبايناً حاداً. واستناداً إلى هذا القرار، فإن الأركان المسيحيين في قوى 14 آذار، من دون استثناء، يرفضون أي تسوية في الاستحقاق الرئاسي لا تفضي إلى انتخاب مرشح من صفوفهم، ويستشعرون خطر تقدّم التفاوض المحتمل إلى حدّ التخلي عن مرشحيهما المعلنين، النائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود، والانتقال بهذا التفاوض إلى البحث في صنف آخر من المرشحين بذريعة إنقاذ الاستحقاق الرئاسي من الفوضى، فيما يعتقد الأركان المسيحيون في قوى 14 آذار أن كلاًّ من الأسماء المتداولة سبق أن طُرِحَ مرشحاً في الحقبة السورية.
2 ـــــ يخشى بعض أركان الغالبية بدء الجولة الجديدة من حوار بري ـــــ الحريري حيث انتهت الحلقة الأخيرة، عندما بدآ مناقشة لائحة أخرجها رئيس المجلس من جيبه وأدرج فيها فئتين من المرشحين: أولئك الذين يوجب انتخابهم تعديلاً دستورياً مسبقاً لإزالة الموانع من طريق هذا الانتخاب (وهما قائد الجيش العماد ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة)، والذين يوصفون بأنهم مرشحو الوسط لا من هذا الفريق ولا من ذاك (الوزراء السابقون ميشال إده وجان عبيد وروبير غانم وفارس بويز). ومع أن الحريري أبلغ إلى بري في تلك الجولة أن لقوى 14 آذار مرشحين اثنين هما حرب ولحود، فإن مجرد طرح أسئلة حول الأسماء المدرجة في لائحة بري أبرز انطباعاً لدى الأخير بأن محاوره منفتح على مناقشة هذه الأسماء، والتخلي عن مرشحي قوى 14 آذار لبلوغ تسوية مقبولة. الأمر الذي ترك ارتياحاً لدى رئيس المجلس بأن وجد أنه والحريري يقاربان التوافق على انتخاب رئيس جديد بجدية وبعيداً من التصلب والخيارات النهائية وغير القابلة للجدل. ثم أتى ما أعلنه بري عن نفي الحريري ما نُسب إليه إبان زيارته واشنطن عن موقفه من مرشحي قوى 14 آذار وإقفال الأبواب دون أي بحث آخر في موضوع الأسماء.
ويبدو أن رئيس المجلس مقتنع بأن الحريري، في لحظة ما من مراحل التفاوض، «سيبيع» المرشحين الحاليين لقوى 14 آذار. وقد يذهب الرجلان إلى تزكية حل وسط يحتفظان باسمه، ويعرفان أنه قد يكون الأكثر ملاءمة للجميع في الداخل ومع سوريا، ويبدّد قلق المجتمع الدولي من فوضى محتملة. بل يقع، كماروني، على تماس جغرافي وسياسي سني ـــــ شيعي ـــــ درزي ـــــ سوري.
3 ـــــ الإشارات المتكررة لجنبلاط عن قلقه من تسوية تحمل قوى 14 آذار على التخلّي عن لحود وحرب، والقبول بسواهما رئيساً، وتأكيده أنه لا يقترع إلا لمرشح من حلفائه في هذه القوى. والتقط بعض الأركان المسيحيين هذه الإشارات على نحو سلبي. وعوض أن يقول جنبلاط «لا، ولكن»، في أي استحقاق لا ينتهي بانتخاب حليف له، بدا أكثر ميلاً إلى «نعم، ولكن». إذ فيما يتمسك بانتخاب رئيس للجمهورية من قوى 14 آذار بنصاب النصف الزائد واحداً، يكاد يسلّم في الوقت نفسه بتسوية تتجاوز موقفه هذا فيخرج منها. ومع أنه أعلن أنه ونواب الحزب التقدمي الاشتراكي سيكونون خارج هذه التسوية، فإن الأوساط المحيطة به ترجّح أن تكون مقاطعة تسوية على الرئيس التوافقي موقف اللقاء الديموقراطي بأعضائه الـ15 جميعاً، بمن فيهم نواب الحزب التقدمي الاشتراكي.
وإذ يبدو هذا الرقم، حسابياً، قليل الفاعلية في ظل تسوية تأتي بأكثر من 105 نواب إلى جلسة انتخاب رئيس توافقي، موالين ومعارضين، فإن دلالاته السياسية تبدو أكثر وقعاً على حلفاء جنبلاط بالذات. وهي الحال التي لامسها الرئيس رفيق الحريري عام 1998 عندما أيّد ونواب كتلته تزكية دمشق لانتخاب الرئيس إميل لحود بينما قاطعه جنبلاط وكتلته النيابية وأربك بموقفه هذا الحريري حيال سوريا، كذلك حيال الرئيس الجديد، وفي ظنّ الرئيس الراحل أن في الإمكان التعاون مع الأخير قبل أن يكتشف أن حليفه، المقاطع، كان على حق في استشراف الموقف من لحود. إلى أن انفجر الخلاف مجدداً مع دمشق ولحود إثر الانتخابات النيابية عام 2000 بين الزعيم الدرزي والقيادة السورية عندما طالبها بإعادة انتشار جنودها في لبنان ونَعَتَ خطاب القسم للحود بأنه «خطاب العرش».
على نحو كهذا يخشى جنبلاط تسوية تستبعد مرشحي 14 آذار، وتُفقد هذا الفريق المكاسب التي حققها في السنتين المنصرمتين وجعلته قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بكل مفاصل الحكم في لبنان. ولم تكن هذه النقزة الوحيدة لدى الأركان المسيحيين في قوى 14 آذار من تراجع جنبلاط حيال الاستحقاق الرئاسي وتصعيد اندفاعه في مهاجمة النظام السوري، بل انضافت إليها أخرى هي إعلان جنبلاط أنه يفوّض إلى الحريري اتخاذ الموقف المناسب لفريق 14 آذار في الاستحقاق الرئاسي.
وفي واقع الأمر لم تقل هذه القوى بعد كلمتها الأخيرة في الحدود الدنيا والقصوى لمناورتها مع الفريق الآخر، ومع رئيس المجلس بالذات، حيال الانتخاب الرئاسي، ولم يقل أعضاؤها المسيحيون كذلك كلمتهم في انتخاب الرئيس الجديد. إذ يراهن هؤلاء على أن يسمّوا هم المرشح الأفضل من صفوفهم، وأن ينضمّ حلفاؤهم إلى موقفهم، وأن يتم تثبيت هذا الموقف بمجيء رئيس من بينهم يقدّم الضمانات الكافية للفريق الآخر.