strong> جيزيل خلف
•«المزارعون القدامى» روّضوا الصخور ثم استسلموا لزحف الإسمنت
«صحراء الشويفات» كما هو متعارف على تسميتها، أرض تمتد على مساحة 7 كلم2 من منطقة الحدث شمالاً حتى خلدة جنوباً، لتطأ قدميها حدود مطار بيروت الدولي. غزاها الإسمنت ولم يبق من «رئة الزيتون» تلك سوى 700 ألف م2، تُستثمر في الزراعة والصناعة والتجارة منذ السبعينيات من القرن الماضي

كانت «صحراء الشويفات» سهل زيتون واسعاً يعود لأهالي البلدة، وقد شكلت الأرض الخصبة عامل جذب لكثير من مزارعي القرى البقاعية وتجارها وعمّالها.
قليلون آمنوا بـ«مغامرة» شبان أتوا من قرى بعلبك الفقيرة ليحولوا «الصحراء» أرضاً خضراء تزدهر فيها أنواع مختلفة من النباتات.
هؤلاء بمعظمهم من قرية النبي عثمان (قضاء بعلبك) وهم تربّوا في البساتين وعملوا مع أهاليهم في استثمار الأراضي الزراعية. كانت أرض الشويفات مليئة بالصخور، وتربتها المهملة لسنوات طويلة أظهرت «عناداً» كبيراً قبل أن تُطوَّع.
«المزارعون القدامى» أي أوائل العاملين في أرض «صحراء الشويفات» يذكرون أنهم عملوا لسنوات لشق خطوط الزراعة وتكسير الصخر، وهم على رغم أنهم بمعظمهم هجروا «صحراء الشويفات» إلّا أنها لا تزال تحتل مكانة في قلوبهم، ستسمعهم يرددون «سنوات الصبا وهبناها لها».
عمل المزارعون مع أهالي البلدة وأثبتوا كفايةً في تعاملهم مع الأرض الصلبة، فتحوّلوا إلى مستثمرين وجلبوا مزروعات جديدة لتحلّ مكان الزيتون الذي يتطلب الكثير من اليد العاملة، ومنها أشجار الحمضيات، والفريز ومزروعات متنوعة من الخضر نبتت في الأرض التي كانت «صحراء». ولكن ذلك تم بعد سنوات من الكد والجهد والتعب، بعد سنوات من العمل المضني الذي جعل أيادي المزارعين قاسية كالصخر. «لانت» الأرض وأثمرت بعدما رواها المزارعون بعرق جباههم.
تجار الدواجن والماشية هم أيضاً وجدوا في السهل الساحلي هذا موقعاً مميزاً لإنشاء المزارع، فهو يشكل نقطة توزيع ممتازة لقربه من مرافئ بيروت وخلدة وصيدا وغيرها، وهذا الموقع يُسهّل العمليات التجارية. وأُنشئت المعامل والمصانع كمعملي الكولا والبيبسي ومعامل الخشب والغرانيت وبعض المصانع الزراعية. هكذا غزا الإسمنت السهل الأخضر، وضاقت الرقعة الزراعية، وكثرت الحكايات التي تُروى عن زراعة المدن وما يواكبها من أعباء الحياة اليومية والمشاكل التي لا تنتهي.
بعد ثلاثة عقود على «مغامرة المزارعين القدامى»، تغيرت ملامح المنطقة، تقلصت المساحات المزروعة وكثرت المباني، ورحل بعض السكان وأتى آخرون. المزارعون الذين قدموا إلى المنطقة قبل ثلاثة عقود رحلوا بمعظمهم عنها، وذلك بعدما رفض أولادهم متابعة العمل في الحقل الزراعي الذي يتطلب الكثير من الجهد والتعب، ولكنه «لم يعد يطعم خبزاً في لبنان».
في «صحراء الشويفات» تسكن عائلات تكاد تكون «منفية»، فالزراعة صديقة أهل الأرض والبسطاء وعمال المزارع الذين لا يراهم رجال الأعمال وأصحاب الرساميل. الزوار قلائل ولكن من يلج تلك المنطقة يشعر برحيق القرى ينبعث من عمق المدينة.
تتعدّد المزروعات الموسمية وغير الموسمية في «صحراء الشويفات» من الخضر الورقية والبندورة والفليفلة والباذنجان والزيتون والخرنوب وحتى الفاكهة الساحلية. لا تنافس بين المزارعين فسوق الجميع واحد هي سوق الخضر في المدينة الرياضية، ولكل مزارع ما يميزه عن جيرانهيبدأ النهار مع انبلاج الفجر وينتهي عندما يسلم النهار دفة الدنيا إلى الليل. يمضي النهار وتذهب معه الفرحة بالكسب أو الخيبة بسبب انعدام السوق، ويأتي يوم آخر مليء بالكد والتعب. من المزارعين من يبني له بيتاً خشبياً أو حجرياً فقيراً في الأرض الزراعية، ويسكنه مع زوجته وأولاده، ومنهم من يجد في الأرض الزراعية مكاناً للعمل فحسب، علماً بأن لهذا النوع من العمل دواماًَ خاصاً تفرضه نوعية المزروعات والعوامل الطبيعية.
جاء المزارعون والمستثمرون وتجار الماشية من مناطق لبنانية متعددة كبعلبك وبلدات البقاع الأخرى وحتى من المدن الريفية السورية، وأصبحوا «من أهل البيت». نشأت علاقة مميزة بينهم وبين أهل البلدة. الاختلافات في الدين أو السياسة لم تقوَ على فك لُحمة صنعتها هذه التربة.
هذة العلاقة الطيبة لم تنفِ فرادة كل من الطرفين، فأهالي الشويفات أهالي مدن والقرويون النازحون أبوا أن يتخلوا عن طابعهم القروي. علاقاتهم بـ«العالم الخارجي» تفرضها طبيعة العمل، فتكاد تختفي حيناً وتتبلور أحياناً لتصل حد علاقة النسب.
يدفع هؤلاء المزارعون أجر استثمار الأراضي، ويراوح هذا الأجر بين اقتطاع الحصص من الإنتاج أو دفع مبلغ سنوي محدد يُتّفق عليه مع مالك الأرض وفقاً للمساحة المُستثمرة والخدمات المتوافرة لها ونوعية المزروعات المتلائمة مع الأرض، فيما اشترى بعض التجار المقتدرين عقارات واسعة، فأنشأوا مزارع الماشية والمسالخ وبعض المصانع الصغيرة.
عباس حسن من مدينة بعلبك، مزارع يضمن أرضاً زراعية من صاحبها رامز المشرفية مقابل سبعة آلاف دولار سنوياً، وهو يعيش مع زوجته وأولاده في الأرض يزرع الخضر المتنوعة ويقول: «أمضيت ثلاثين عاماً في هذه الأرض ومع هذه الزراعة، وهي تشكل مورد الرزق الوحيد». أحمد العرب جاء أيضاً من البقاع الى «صحراء الشويفات» عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وهو الآن يبلغ من العمر 52 سنة، يضمن أرضاً زراعية بمساحة أربعين ألف متر مربع، يزرع فيها الملوخية والخضر الورقية، ويتحدث عن المشاكل الكثيرة التي يعانيها المزارعون وسط غياب أي اهتمام رسمي بهم، ويقول: «في الزراعة ما في احتكار، كلنا مناكل، بس الأرض ما بتنطر، فإذا لم نجد سوقاً لتصريفها فسوف تتلف»، ويتحدث عن مشكلة العمال «العمال مش ميسرين، الزراعة بدا شغل، بدها رجالللتجار الكبار رأي آخر، إذ هم أصحاب أعمال ومزارع تراوح مساحتها بين ثلاثة وخمسة آلاف متر مربع. قد يهزأ البعض مما قد تأتي به الأبقار والماعز، ولكنها أتت بالكثير كما يروي البقاعي المخضرم في المهنة العم أحمد سليمان، وهو من تُبحر باخرات الماشية الخاصة بمزرعته من وإلى أكثر من ست عشرة دولة مختلفة، علماً بأنه يشكي قلة اليد العاملة اللبنانية وينعى مهنته إذا ما تخلّف العمال الأجانب عن العمل.
وللزراعة رأسمالها الضخم إذ يدفع المزارعون أموالاً تقارب مئة مليون ليرة لبنانية سنوياً هي مستلزمات توفير مياه الري وتغطية تكاليف المولدات الكهربائية لسحب المياه من الآبار الارتوازية وصيانة شبكة الري والآلات الزراعية وشراء المبيدات والأسمدة والكيماويات والأملاح والبذور، إضافة إلى أجرة العمال، إذ يبلغ أجر العامل نحو 10 آلاف ليرة يومياً.
يسرى العرب (48 عاماً) أم لسبعة أولاد، تعمل في أرض الشويفات الزراعية وتقول: «الحياة صعبة، لذا يساعدني أولادي، فالحجرة بتسند خابية»، علماً بأن العمال لا يجنون من العمل سوى الأجر الزهيد والتعب الكثير ولا يتمتعون بأية ضمانات.
ليست حال المزارعين المستثمرين بأفضل من حال العمال المياومين، فمشاكلهم تتنوع بين توفير حاجات الزراعة الأساسية وتصريف الإنتاج. الكهرباء بمثابة زائر والمياه تلقى كل شيء سوى الاهتمام والمتابعة، وقد عانى المزارعون كثيراً ملوحتها، ما استدعى استبدال نوعية المزروعات مراراً. لا تُفحص التربة، ولا يأتي مهندسون زراعيون لدراستها، علماً بأن وزارة الزراعة خصصت لها مختبراً يُعنى بصحة الإنتاج.
يعيش المزارعون خارج جناح أية نقابة تدافع عن حقوقهم وترعى شؤونهم، على رغم المحاولات الفردية الكثيرة التي قام بها المزارعون لتجميع قواهم في إطار تجمع واحد، إلا أن المحاولات باءت بالفشل وسط غياب وزارة الزراعة التي «إن حضرت فحضورها يتمثل بالوعود المقرونة بالعجز»، إذ إن موازنة وزارة الزراعة لا تتعدى 0،8 في المئة من الموازنة العامة للدولة، فيما يعتمد أكثر من 35 في المئة من اللبنانيين على الزراعة مورداً للرزق وحيداً. وتصعب شروط الحصول على القروض الزراعية المساندة، وتُفرض على المزارعين الضرائب غير المباشرة المتمثلة في أسعار المواد الكيماوية المرتفعة مقارنة مع الأسعار الموجودة في الدول المجاورة وسط غياب دعم الدولة للمواد الأولية الخاصة بالقطاعات الاقتصادية الأساسية. ففيما يبلغ ثمن عبوة الكيماوي في لبنان 80 دولاراً، في مقابل 10 دولارات للعبوة نفسها في سوريا أو الأردن.
وتزداد حالة المزارعين سوءاً بسبب منافسة البضائع الأجنبية لها، وبتفاقم مشاكل تصريف الإنتاج تضيع فرحة المزارع بالموسم الجيد مع فقدان الأسواق وتعذّر الاستفادة من البرادات بسبب نوعية المزروعات التي لا يمكن حفظها.
على رغم سوء الحال فإن القرويين في الشويفات يأملون ألا تزداد الحالة سوءاً وألا يتابع الإسمنت تمدده، فتغادر الخضر وطنها وتشح معها لقمة العيش في زمن ناطحات السحاب.



أبو ذباح... صديق الطبيعة

في تلك المساحة الخضراء يقوم نموذج للقرية المميزة التي نزحت. إنها دنيا البساطة في عمق المدينة يجسدها محمد شحادة أو العم أبو ذبّاح وعائلته، وهو رجل ستيني سوري الأصل جاء إلى لبنان في بداية السبعينيات وعمل في ميادين عديدة منها البناء والمعامل الصناعية ليستقر في الزراعة في نهاية المطاف. يعيش أبو ذباح في أرض زراعية صغيرة في صحراء الشويفات أخذها من أحد أهالي الشويفات، وهو لا يدفع أجراً لقاء الاستثمار، بل إن أصحاب الأرض يستعيضون عن ذلك بحصص من المزروعات فحسب. يزرع أبو ذباح الخضر الورقية والخرنوب والزيتون، ويروي بحسرة قصة انهيار «الجمال الأخضر» وقدوم الشبح الرمادي والأبنية الإسمنتية. يشكل هو وعائلتة نموذج الحياة البسيطة المقرون بإرادة العيش الكريم. بنى أبو ذباح كوخاً خشبياً له ولأولاده الثمانية، وربّى أولاده ووفّر لهم التعليم من مزرعته الصغيرة هذه. يقول «ولدي البكر يتابع تحصيله العلمي في فرنسا، لولا الزراعة لما تمكن من ذلك». قليلاً ما يزور أبو ذباح أو أحد أفراد عائلته المحال التجارية، فرؤوس الماعز الشامية، التي يصل عددها في فصل الربيع إلى مئة، توفر له ولعائلته الحليب ومشتقاته وحاجاته من الألبان والأجبان وتطعم الأقارب والجيران الأحباء، فيما توفر له مزرعة الدجاج التي تحوي أكثر من مئتي دجاجة، حاجاته من البيض واللحم، بينما تخبز امرأته «الطلامي» والخبز على الصاج، وهكذا توفر معيشتها.
يتعرض أبو ذباح إلى مشاكل عديدة، أهمها تكرار حادث اندلاع الحرائق المفتعلة في حقل الزيتون لعدة مواسم خلت، إلا أنه يقول متجاهلاً «بسيطة، الله بعوّض... كتّر خير الشباب بالبلدية وبالحزب، دايماً بيعملو دوريات وبيحمو المنطقة، الدنيا مش سايبة». ويحكي أبو ذباح كيف يصبح الإنسان صديقاًَ للطبيعة، فيمسي مثلها مفعماً بالسلام ومليئاً بالطهارة وحب الحياة، فأبو ذبّاح أصبح صديقاً لحنش الصحراء، ولمن لا يعرفه، هو ثعبان ضخم يبلغ طوله مترين، وقد اعتاد زيارة أبو ذبّاح فجر كل يوم ليشرب، فيرى أحدهما الآخر.