جان عزيز
أكثر من عامل وحدث حرّك المستنقع السياسي المسيحي الذي ظلّ راكداً حتى الساعات القليلة الماضية. المطلعون على الحركة المكوكية المعلنة، وخصوصاً البعيدة عن الإعلام، بين بكركي والرابية وبكفيا ومعراب وبنشعي، يشيرون في شكل أساسي إلى عدد من الدوافع والحوافز، أبرزها الآتي:
أولاً، تبلور موقف أميركي جديد نسبياً، يترك هامشاً ملحوظاً للحركة اللبنانية الداخلية، في مسألة الاستحقاق الرئاسي. ذلك أن أجواء واشنطن المبلّغة إلى زوارها، وحتى مواقفها المصرّح بها أمام وسائل الإعلام، تبدو كأنها قد تراجعت نوعاً ما عن مقولة دعم فريق السلطة في خيار الانتخاب بالنصف زائداً واحداً، بعد 14 تشرين الثاني المقبل. هذا الموقف الأميركي الجديد أبلغه ديك تشيني إلى وليد جنبلاط، وأعلنه في تصريحه الذي أعقب استقباله رئيس اللقاء الديموقراطي، مشيراً إلى انتخاب «وفق الدستور والأعراف الدستورية اللبنانية». والموقف الأميركي نفسه قيل إنه استشفّ في عين التينة، بعد فترة طويلة من عدم الاطمئنان إلى رسائل جيفري فيلتمان في هذا المجال.
هذا العامل الأول، كان له تأثير كبير في الساحة المسيحية، بشقيها الموالي والمعارض. فالموالون استدركوا بعض الشيء مسار اندفاعهم في التصلّب، والبعض يقول تراجعوا نسبياً عن نومهم على الحرير الأميركي في خيار النصف زائداً واحداً المضمون والمكفول. والمعارضون أجروا قراءة ثانية لجدوى الحوار الداخلي، ما دام سيف التهديد الأميركي لم يعد مصلتاً، أو على الأقل لم يعد العامل الوازن في تفكير السلطة وأدائها.
ثانياً، تظهير الصورة القاتمة لمستقبل الوضع في لبنان، بواسطة وزراء خارجية الترويكا الأوروبية. ذلك أن الرسالة الفعلية لهؤلاء كانت، بحسب مَن التقاهم، إطلاق جرس الإنذار للبنانيين جميعاً. وعمد الوزراء الثلاثة إلى إفهام مضيفيهم بأن أوروبا ليست طرفاً في الصراع القائم في بيروت على السلطة، وأنها تسعى فعلاً إلى حل يجنّب لبنان الفراغ، ويجنّب الأوروبيين بالتالي الخطر المحتمل حيال الآلاف من أبنائهم المقيمين بين ناري الجنوب اللبناني. وبهذه الخلفية تحديداً أفهم الأوروبيون مَن التقوهم أنهم جاهزون للمساعدة، وجديون في العزم على تسهيل الحل، من واشنطن إلى الرياض ومن طهران إلى دمشق.
والموقف الأوروبي هذا ترك الوقع نفسه الذي خلّفه الموقف الأميركي، لدى القوى المسيحية، الموالية والمعارضة. فالأولون فهموا الرسالة الأوروبية المرتبطة بوجود قواتهم ضمن اليونيفيل، على أنها تبليغ صريح بعدم استعداد هذه العواصم الغربية الذهاب في أي مغامرة لبنانية تفجيرية أو تصعيدية. والآخرون فهموا الرسالة نفسها استعداداً أوروبياً لموازنة الضغط الأميركي في الواقع اللبناني، ما يوسّع هامش الحركة الداخلية ويعزز تأثيرها في اتجاهات الأمور. وهنا أيضاً كانت النتيجة تشجيعاً على إطلاق الحوار المسيحي ـــــ المسيحي.
غير أن العامل الثالث المرتبط ببكركي كان الأكثر أثراً في تحريك جبال الجليد المارونية. فمن الجهة الأميركية، تكررت الإشارات الإيجابية حيال الصرح، والدالة على اعتبار أميركي أكبر لوجهة نظره في الشأن الرئاسي. وآخر هذه الإشارات ما كتبه فيلتمان أمس عن مقارنة ثنائية يراها بصفته سفير الولايات المتحدة، بين نظرة «حزب الله» إلى لبنان، ونظرة بكركي التي لم يتردد في القول إنه يؤيدها. ومن الجهة الأوروبية تأكدت المعلومات عن سعي الترويكا الزائرة إلى تشجيع بكركي على طرح أسماء مرشحيها الرئاسيين، مع تأكيدها بذل الجهد الغربي اللازم لتبنيهم وخوض معركة تمرير أحدهم.
وسط هذه الصورة انفجرت وقائع مبادرة بكركي، بعدما تأكد البعض من أن كل محاولاته لإجهاضها وتفريغها من مضمونها لم تنجح، وبعدما استوعب الجميع التداعيات الممكنة لأي فشل بطريركي في المسألة الرئاسية، على صعيد مستقبل النظام اللبناني ومستقبل المسيحيين ودورهم فيه.
وجاءت التفاصيل المحددة والوقائع لتضاعف تلك الصدمة الإيجابية. ففي أحد لقاءي بكركي، بادر أحد الأساقفة المشاركين إلى طرح اسم محدد للرئاسة، سائلاً عن رأي الحاضرين فيه، وهو ما كان كافياً لإثارة حركة لافتة لدى الطرفين. كما أن سيد الصرح نفسه عمد في الدقائق الخمس التي شارك فيها في الاجتماع الأول للجنة المتابعة، إلى رمي مقولة رئيس «لا من هودي ولا من هودي»، ما شكّل أيضاً دافعاً للخروج من الجمود السابق.
على وقع هذه الخلفيات استعادت حركة بكركي جديتها وفاعليتها. فتوصلت لجنة المتابعة سريعاً إلى وضع المواصفات السبع المطلوبة لقياس أهلية الاسم الرئاسي، وهي حرفياً أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، وصاحب خبرة ومعرفة في الشؤون السياسية والوطنية، عفيف النفس، لا يستحي مستقبله من حاضره أو ماضيه، صلباً في مواقفه السياسية والوطنية، قادراً على استعادة مكانة لبنان في المجتمع الدولي، وصاحب شرعية تمثيلية منبثقة من ذاته وشخصه، مسيحياً ووطنياً.
وسرعان ما اتفق على وضع هذه المواصفات في جدول يقدم في اجتماع اللجنة بعد ظهر اليوم، ليوقّعه المشاركون التزاماً بمضمونه، وليصار بعدها إلى مقارنته بالأسماء الثلاثة عشر التي فرزها البحث الأولي في مَن هم المرشحون نظرياً للمنصب.
عند هذا الحد أحسّ الجميع بأن الأمور باتت جدية أكثر مما كانوا يتوقعون. جدية في مخاطر عدم الاتفاق، وجدية في فرصة الحل الذي قد يأتي على حساب القوى الأساسية ومن خارج حساباتها إذا ما أخطأت في التقدير. فجأة عادت الحرارة إلى كل الخطوط، وخصوصاً بين كل من قريطم والمختارة وبكفيا ومعراب، وبين الرابية. وكمثل كل حرارة، نجحت في إذابة بعض الجليد، أقلّه من رأس جبال الجليد المارونية والمسيحية واللبنانية، في انتظار حرارة غير مسبوقة لشهر تشرين الثاني.