رنا حايك
فيروس الورم الحليمي هو أكثر الفيروسات شيوعاً بين النساء. تنتقل عدواه بالممارسة الجنسية، ويتألّف من أكثر من مئة نوع، تتدرّج من تلك غير المؤذية بتاتاً إلى تلك التي تسبّب سرطان عنق الرحم. أصبحت الوقاية منه متوافرة في لبنان، لكن الحديث عنه ما زال معيباً يلفّه ستار المحرّمات...

«ثقتي بالعالم خفّت. علاقتي بالرجال انتهت. لم يردّ الطبيب تحيتي وأنا خارجة من عيادته. كان لا يزال مأخوذاً بتوبيخه لي واتهامي بالاستهتار والتهويل عليّ كأنني على شفير الموت. حرقت كل ملاءاتي ومناشفي ما إن وصلت إلى المنزل. وبدل أن أكمل علاجي لدى الطبيب النسائي، زرت الكثيرين من أطباء الأعصاب».
تشبه شهادة سارة شهادة الكثيرات ممن أصبن بفيروس الورم الحليمي البشري (HPV)، ويتكرر السيناريو ذاته مع كل واحدة منهن.
فهذا المرض الشائع الذي تعانيه نحو 40% من النساء الأميركيات، تتراوح نتائجه بين التسبب باختلالات طفيفة في بطانة الرحم وبين سرطان عنق الرحم. إلا أن شيوع المرض لا يؤشّر على خروجه من دائرة «التابو» في مجتمعات تعيش حالت انكار، وتتحكم بها الأحكام النمطية كمجتمعاتنا. فالـ«h.p.v» ليس إنفلونزا تنتقل عدواها في الهواء، بل هو فيروس تناسلي ينتقل عبر الاتصال الجنسي. هذه المعلومة كلّفت سارة وكثيرات غيرها ليالي طويلة من الاكتئاب والخوف، فعشن لحظات موجعة من الإهانات سبّبها بعض الأطباء ممن قرروا أن يتحولوا إلى واعظين اجتماعيين.

المحاكمات الاجتماعية

لم تعرف سارة أكثر من رجل. خطيبها كان الرجل الوحيد الذي أقامت معه علاقة. واظبت خلال السنوات الخمس التي قضتها معه قبل أن ينفصلا على مراجعة طبيبة الأمراض النسائية دورياً. لكنها انقطعت عن زيارتها بعد انفصالها عنه. لم تقم أي علاقة أخرى خلال سنة ونصف. سارة شابة مثقفة وجامعية، تدرك أهمية متابعة حالتها الصحية، ما دفعها إلى مراجعة طبيب أمراض نسائية جديد على سبيل الروتين. كان ذلك الطبيب هو من اكتشف حالة الفيروس المتقدمة التي تفتك برحمها. اتهمها بالكذب في شأن علاقتها الوحيدة، أهانها وأكّد ضرورة إجراء عملية استئصال للرحم. مرّت شهور طويلة تفرّغت خلالها سارة للبحث والقراءة عن الفيروس الذي أصابها قبل أن تستجمع شجاعتها وتقصد طبيباً آخر استوعبها واحتواها وعالجها كما ينص قسَم أبقراط الذي يحكم ممارسته للمهنة. أخبرها أن سبب إصابتها في هذا السن المبكرة (27 عاماً) يعود إلى ضعف مناعتها. فهذا الفيروس يختفي لوحده أحياناً لو قاومه الجسم.
أجرت سارة عملية استئصال للورم، واتصلت بخطيبها السابق تخبره ليجري بدوره الفحوصات اللازمة حتى لا ينقل المرض لشريكاته لاحقاً. لم تخبر أحداً غير والدتها التي تفهّمتها ووقفت إلى جانبها، وصديقاتها اللواتي أجبرتهن جميعاً على إجراء الفحوصات اللازمة للتأكد من سلامتهن.
استأصلت سارة الورم، لكن الفيروس لم يمت. تابعت بحثها عنه، فعرفت بأمر اللقاح، لم يكن قد توافر في لبنان بعد، فسافرت إلى فرنسا وتناولته ليضمن حمايتها من سرطان قد يتجدّد لاحقاً. هي تخضع الآن لفحوصات ولمسوحات مهبلية دورياً، وتتابع صحتها عن كثب وباستمرار كسلوك وقائي. تفاقم حذرها، لم تعد تستطيع الارتباط بأي رجل كان. «بدّي حدا يتفهّم حالتي» تقول. بدأت تتصالح مع حالتها، لكنها ما زالت تخاف الألسنة، فردّ فعل النساء «عنيف» كما تصفه، والمجتمع يعيش حال نكران ستكون حاجزاً يحول دون لجوء الفتيات تحت سن الخامسة والعشرين إلى أخذ اللقاح الذي أصبح متوافراً اليوم في لبنان. لكن بكلفة تصل إلى 500 دولار أميركي.
نسرين نالت أيضاً نصيبها من الإذلال من طبيبها الأول، قبل أن تقصد طبيباً آخر. قال لها عليك أن تتحملي مسؤولية أخطائك، وتعمّد إشعارها بالقرف الذي انتابه من حالتها. سبّب سلوك هذا الطبيب انعزال نسرين لمدة شهرين، ثم استأنفت حياتها في حال نكران وإهمال العلاج لمدة سنة كاملة، حتى تدخّلت صديقتها «مايا» واصطحبتها إلى طبيب طمأنها وعالجها. فـ«مايا» كانت تدرك الجحيم الذي تعيشه صديقتها، لأنها تمرّ بالمحنة ذاتها.
بدأت رحلة مايا في اكتشاف المرض حين ظهرت أعراضه لدى شريكها. ولأنها تعمل في مختبر، أدركت فوراً أن تلك الثآليل التي ظهرت هي إحدى أكثر عوارض الـHPV شيوعاً. لم تشعر بالهلع، لأنها كانت دوماً حريصة على استعمال الواقي الذكري على سبيل الحماية، رغم التزامها علاقة وحيدة مع هذا الشريك، لكنها أجرت الفحوصات رغم ذلك. حين سألت الطبيب، أخبرها أن الحماية التي يوفّرها الواقي ليست كاملة مئة في المئة. جاءت نتائج هذه الفحوصات إيجابية. فبدأت مايا رحلة المرض. علاقتها بشريكها تزعزعت قليلاً في الفترة الأولى، فقد اعتراه الإحساس بالذنب، واعتراها بعض الغضب منه. ثقتها بنفسها اهتزت لأنها لامت نفسها على جهلها بهذا الفيروس، رغم عملها في المجال الطبي. كان حظ مايا أوفر من صديقاتها من ناحية تفهّم الطبيب الذي قصدته. فهو يتابع حالتها حتى اليوم، ويجري لها فحوصات دورية، أهمها فحص «المسحة المهبلية» (فحص القزازة)، لأنه الكفيل بإظهار مدى استفحال الفيروس وكشف الورم منذ بدايته.
الصمت وحال النكران هما أكثر ما يغضب مايا حالياً. تقول مستفَزة: «لماذا لا يتحدث أحد عن هذا الموضوع؟ رغم أن اللقاح موجود منذ سنة، وحالات سرطان عنق الرحم كثيرة في لبنان. لماذا تعرّي النساء المنتظرات في عيادة أطباء الأمراض النسائية أي فتاة تدخل بنظراتهن بحثاً عن خاتم الزواج في إصبعها؟ وتتعمد السكرتيرة مضايقتها حين تسألها بصوت مرتفع إن كانت متزوجة؟ لماذا مهما تثقفنا وادّعينا العلم والانفتاح نبقى أسرى المحرّمات والجهل؟».
دفعت هذه التساؤلات مايا للالتفات إلى موضوع التوعية، فأصبحت تحدّث صديقاتها عن الفيروس، وتجبرهم أحياناً على إجراء الفحوصات. أخبرت جميع من حولها إلاّ أهلها. فهذه هي أشرس الجبهات وأصعبها.
ورغم اهتمامها بموضوع التوعية، إلا أنها تؤثر القيام به شخصياً، دون أن يرتبط نشاطها بالشركة التي تؤمن اللقاح. فهي تخاف الانزلاق في فخ التسويق. هي تدرك أن التوعية وحدها لا تكفي، فحتى لو اقتنعت الفتاة بوجوب أخذ اللقاح، تبقى المشكلة في تأمين ثمنه. هنا، تشير مايا إلى الميزة التي تتمتع بها الفتيات في فرنسا، حيث تتكفل مؤسسة الضمان الاجتماعي بتغطية نفقات اللقاح. وتنتقد، في المقابل، أسلوب عمل الوزارات في لبنان الذي يركّز على العلاج بدل الوقاية، وهو أسلوب يكلّف الوزارات أكثر، بدل أن يخفف عنها التكاليف.
ينطبق هذا المنطق الرسمي في معالجة الآفة وظواهرها بدل الوقاية من الإصابة بها، على سلوك أفراد المجتمع اللبناني في تعاملهم مع المواضيع التي تمس المحرمات. تختلف الدوافع، لكن النتيجة واحدة. من هنا تبرز أهمية تعميم المعلومات في شأن فيروس الـ«hpv».

ما هو فيروس الورم الحليمي البشري؟

هو فيروس يصيب على الأقل نصف النساء والرجال الناشطين جنسياً في مرحلة معينة من حياتهم. قد تختفي العدوى تلقائياً خلال سنة لدى البعض منهم ممن يتمتعون بمناعة قوية، وقد تؤدي في بعض الحالات إلى ظهور سرطان عنق الرحم، وهو ثاني سرطان قاتل للمرأة، وسرطانات أخرى في الأعضاء التناسلية لدى الجنسين. ويسبب النوعان 16 و18 من الفيروس، ما يقارب 70% من مجموع الإصابات بسرطان عنق الرحم، بينما يسبب النوعان 6 و11 منه 90% من مجموع حالات الإصابة بالثآليل التناسلية.
تظهر 80% تقريباً من حالات سرطان عنق الرحم في البلدان النامية. ويشهد العالم إصابة حوالى 500 ألف إمرأة سنوياً بهذا المرض، ووفاة 300 ألف منهن جرّائه.
وبما أن الأدوية المضادة للفيروس لا تعالج العدوى، يبقى اللقاح هو الحل الأمثل للنساء. كما تبقى الفحوصات الدورية (الفحص الخاص بوجود الفيروس وفحص المسح المهبلي) بالنسبة لهن هي الحل الأمثل لاحتواء الفيروس فور ظهوره، لأنه غالباً ما يستفحل في الجسم دون أن ترافق التغيرات ما قبل السرطانية والسرطانات المبكرة عوارض ظاهرة أو ألم.
وفي حين أثبت اللقاح فعاليته بالنسبة للنساء، ما زالت التجارب مستمرة للتأكد من فعاليته على الرجال. أما فحوصات الكشف عن وجود الفيروس، فهي لا تجدي لدى الرجال إلا إذا كان النوع الذي أصيبوا به يسبب ظهور الثآليل التناسلية. ففي الحالات الأخرى، قد يحمل الذكر الفيروس ويصيب شريكاته بعدواه دون أن يكون على علم بإصابته.
يحمي اللقاح النساء، وتزداد فعاليته إذا منح لهن في سن مبكرة، بين 11 و12 سنة، قبل أن يصبحن ناشطات جنسياً. إلا أن اللجنة الأميركية الاستشارية في شأن ممارسات زيادة المناعة قد أوصت بلقاح إلحاقي للنساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 19 و26 بعد رجوعهن لرأي مورد الرعاية الصحية الخاص بهن. يُعطى اللقاح في ثلاث جرعات على مدى ستة أشهر، بتكلفة قد تصل إلى نحو 500 دولار أميركي، وهو متوافر الآن في المستشفيات والصيدليات في
لبنان.



درهم وقاية خير من قنطار علاج...

تسجّل في لبنان سنوياً مائة حالة من حالات سرطان عنق الرّحم. وهو رقم مرتفع، كما يشرح المتخصص في الأمراض النسائية والتوليد، الدكتور علي خليل. وبما أن فيروس الورم الحليمي البشري مسؤول عن جميع هذه الحالات، تبدو الحاجة إلى لقاح ملحّة. وقد طوّرت شركة «غلاكسوسميث كلاين» الإنكليزية لقاحاً صدّقت عليه الجهات المختصة في الاتحاد الأوروبي خلال الأسبوع الماضي، وما زال ينتظر تصديق وكالة الدواء الفدرالية الأميركية. أما اللقاح الذي طوّرته شركة «ميرك، شارب أند دومه» الأميركية، فقد حصل على موافقة «وكالة الدواء الفدرالية الأميركية» منذ حزيران 2006. وهو اللقاح الذي طرح في مستشفيات وصيدليات لبنان منذ حوالى الشهر. وقد بدأت الشركة المنتجة القيام بحملات توعية للجسم الطبي، من خلال إقامة اجتماعات مع الأطباء والصيادلة. كما أنها قدمت مشروعاً، لا يزال قيد البحث، لوزارة الصحة عن ترتيب حملات توعية للعامة تنفذ بالتنسيق مع الوزارة.
يؤكد الدكتور علي خليل أن اللقاح هو الحل الوحيد لمحاربة هذا الفيروس، لكنه حلّ مكلف، يتخطى قدرة شريحة كبيرة من الناس على تحمله. فالتكلفة الإجمالية للجرعات الثلاث قد تصل إلى نحو 500 دولار أميركي. لذلك، تتناقش اللجان الطبية في نقابة الأطباء حالياً مع وزارة الصحة، لبحث إمكان دعم الوزارة للمرضى في هذا الصّدد.
أثبت اللقاح أنه حلٌّ وقائي للنساء. فسرطان عنق الرحم يمثّل ثلثي السرطانات التي يسبّبها هذا الفيروس، بينما ينحصر الثلث الباقي في سرطانات الفرج والمخرج والقضيب، ما يعني أن حماية النساء هي الأكثر إلحاحاً. إلا أن الدراسات ما زالت مستمرة في الغرب لمعرفة مدى فعالية اللقاح للرجل أيضاً.
ورغم فعالية اللقاح التامة التي تؤكدها د. أمل شلفون، المديرة الطبية في شركة «ميرك شارب أند دومة»، إلا أنها توضح أن مفعوله ينحصر في القضاء على أربعة أنواع من فيروسات الورم الحليمي البشري، التي تصيب الأعضاء التناسلية. فالأنواع الكثيرة الباقية يمكن أن تسبّب سرطان عنق الرحم بدورها، إلا أن أولوية مجابهة الأنواع الأربعة التي يتصدى لها اللقاح تكمن في اعتبارين: أولهما أن نوعين منها مسؤولان عن 90% من حالات الثآليل. وثانيهما أن النوعين الباقيين مسؤولان عن 70% من سرطان عنق الرّحم.
تشدد شلفون على أهمية التوعية في هذا المجال، وعلى ضرورة تحفيز النساء على إجراء فحص «المسح المهبلي» دورياً للكشف مبكراً عن المرض.