جان عزيز
لافتة جداً هجمة اللقاءات المعلنة والمكتومة مع العماد ميشال عون، وفي ظل القاعدة القديمة التي يعتمدها الجنرال، في أنه لا يؤكد ولا ينفي أي خبر يتعلق بملتقيه، ويترك لهم حق المبادرة أو الصمت، يصير الهمس والتحليل والاستقراء أكثر كمّاً وأغزر.
وفي طليعة تلك التحليلات مقولة أولى مفادها أن الذين يزورون عون أو يلتقونه هذه الأيام، يهدفون إلى الغمز من قناة حلفاء الرابية، و«التمريك» على القوى المرتبطة بها بعلاقات «تفاهم». حتى إن أصحاب هذه المقولة لم يترددوا في التصريح علناً، بأن بعض المواقف التصعيدية، كما وصفوها، والصادرة عن «حزب الله» أو عن رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، تأتي في سياق الرد على خطوات الانفتاح على عون، وبالتالي بهدف قطع الطريق على الحوارات الناشئة معه. وبعض أصحاب هذه المقولة من غير المصرّحين علناً، يذهب أبعد في تحليلاته، فيقول إن عون نفسه بادر إلى القيام بتلك الخطوات الانفتاحية، كتعبير عن استياء مزعوم من عدم جدية دعم حلفائه له في السباق الرئاسي. ويستطرد أصحاب هذا القول أبعد، فيضيفون إن «التسريبة» التي رماها الحزب حول إبلاغ بكركي بأن عون مرشحه الرئاسي، تأتي على خلفية الرد على هذا الاستياء ومعالجته.
غير أن العارفين بأعماق علاقة التفاهم والتعاون القائمة بين أطراف المعارضة، يتندّرون بتلك التحليلات ويضحكون طويلاً من مطلقيها وواهميها وعليهم. مستندين في اطمئنانهم إلى يقين الثقة القائمة بين أركان المعارضة، كما إلى وحدة «المصير السياسي» في ما بينهم، الذي فرضته السلطة المركّبة بعامليها الداخلي والخارجي.
والعارفون أنفسهم يشيرون أيضاً، في إطار اطمئنانهم الكامل، إلى أن الشخصيات التي التقت ـــــ أو قيل إنها التقت ـــــ عون أخيراً، ليست من النوع الذي يستهوي «الحرتقة»، أو يحترف سياسات الزواريب. ولا هي من الوزن الخفيف الذي يضيّع أوقاته في اللحظات المصيرية بمماحكات من هذا النوع. وبناءً عليه، لا يتردد العارفون في إسقاط مقولة التفسير الأولى هذه، عن لقاءات عون الأخيرة.
غير أن تفسيراً ثانياً يبدو أكثر تماسكاً، ومفاده أن تطور الاستحقاق الرئاسي، بلغ نقطة من التأزّم والتصعيد، جعلت المواقف مفروزة في شكل حاد، كما جعلت الخيارات ضيقة جداً والاحتمالات قليلة وشبه مكشوفة.
وفي هذا السياق، يقول هذا التفسير إن البعض بات يرى في التطورات الرئاسية الحاصلة، تقدم حظوظ لمرشحين يرفضهم سراً، لكن لا قدرة له على التعبير عن رفضه هذا علناً. ويشير التفسير نفسه إلى أن هذه المفارقة لا يمكن أن تُفهم إلاّ على قاعدة المعرفة بالتناقضات الكامنة والتجاذبات المكتومة داخل فريق الموالاة. ففي قلب هذا التحالف الواسع، ثمّة صراعات مقنّعة وخلافات مخفيّة. وهي اليوم قاربت الظهور، بعدما بدأت تظهر الوجوه الفعلية والحظوظ الحقيقية. وفي هذا الإطار فإن زيارة قائد الجيش إلى القاهرة، أو إعلان سمير جعجع أن أخصامه سيترحّمون على المرشحين بطرس حرب ونسيب لحود، وسوى ذلك من المواقف المماثلة، جعل بعض الموالين يدرك ضرورة البحث عن روافد من خارج فريقه وتحالفه، لتدعيم موقفه ودرء «المخاطر الحليفة» عليه.
وفي هذا السياق، يحاول التفسير الثاني الإيحاء بأن تقدم حظوظ مرشحين معنيين، دفع البعض من مؤيديهم القسريين إلى التقاطع ـــــ علناً أو سرّاً ـــــ مع مناوئيهم المكشوفين، لحلفاء موضوعيين لهم في محاولة رفضهم لهم ومنعهم من الوصول.
ومرة ثانية يقول العارفون بأسرار اللقاءات «العونية» الأخيرة، إن حقيقة الأمور بعيدة كل البعد عن ذلك. لأن أطراف هذه الاجتماعات يدركون تمام الإدراك، حقيقة القدرة التثقيلية لكل طرف داخلي أو خارجي، ويعرفون حقيقة الأحجام والأوزان والتأثيرات. ولذلك فهم لا يتوهّمون أن في إمكان لقاءاتهم نسف التوازنات الدولية، أو قلب الطاولات الخارجية. وهم يعرفون مثلاً بالدقة والتفصيل أن زيارة العماد ميشال سليمان إلى القاهرة مرتبطة بالمخزون المصري الكبير من العتاد الحربي ذي المصدر الشرقي، الذي يطمح الجيش إلى تلقّي هبات منه للتدريب والتمرين. ويعرفون أن لقاءه الرئيس حسني مبارك جاء في إطار رسالة الدعم المصري لمكافحة الإرهاب الأصولي، وحاجة الجيش إلى هذه الرسالة العربية ـــــ والمصرية تحديداً ـــــ بعد معارك نهر البارد. وبالتالي فهي لا تحمل في أي حال من الأحوال أبعاداً رئاسية. أمّا حالة سمير جعجع، فأكثر بديهية واستحالة في القياس الرئاسي. ولذلك فإن العارفين أنفسهم، لا يلبثون أن يشكّكوا في صحة التفسير الثاني وصوابه.
يبقى تفسير ثالث وأخير، للهجمة الموالية على لقاء عون. مفاده شبكة متقاطعة من الكلام المرمّز والمتقطّع، الذي دأب السفير الأميركي جيفري فيلتمان على إرساله على عواهنه، أمام مجموعات متفرقة من الشخصيات المسيحية التي يلتقيها أخيراً في شكل شبه دوري.
شبكة صعبة التركيب الكامل، لكن أبرز ما في جمع أطرافها وكلماتها أمران: أولاً التعبير عن استياء من عدم قدرة الموالاة على تنفيذ أي حل أو رؤية. وثانياً التساؤل عمّا إذا كان الحكي مع ميشال عون قادراً على الوصول إلى مكان ما.
المشاركون في تلك اللقاءات يصفون مضمونها بأنه أقرب إلى التفكير بصوت عال، أو من نوع «العصف الفكري»، وفق التعبير الأميركي الشهير. لكنه كان كافياً للتسرّب وللتناقل وللتواتر. حتى قيل إنه صار نوعاً من قاعدة تفكير جديد: يبدو أننا عاجزون. لنرَ ماذا لدى عون؟
إلى هنا وصلت الأمور. لا غير. ولا أبعد.