إيمان نويهض *
بعكس التوقّعات والتمنّيات، عاد مرض السلّ إلى الانتشار، فارتفعت إصاباته أخيراً إلى أكثر من 8،8 ملايين إصابة سنوياً في العالم، يقع سبعة ملايين منها في آسيا وأفريقيا، ويموت بسببها أكثر من مليون ونصف مليون شخص. الأمراض الانتقاليّة التي ظنّ الأطبّاء والعلماء أنها أصبحت تحت السيطرة ليست مشكلة طبية أو علمية فحسب، إنما مسألة تنموية واجتماعية بامتياز، وإن لم نفهمها من هذا المنطلق، فلن نتمكّن من كسر الحلقة المفرغة التي نقع فيها حالياً.
تسبّب السلّ جرثومة بكتيريّة تنتقل بواسطة التنفّس، وتتوسّع لاحقاً. إلا حين تكون من سلالة عدائية جداً، فتنتشر سريعاً. ورغم نجاح مختبرات شركات الأدوية العالمية في اكتشاف أدوية لمعالجة السل والقضاء عليه، إلا أن هذه الجرثومة تمكنت من حماية نفسها، فتحوّل بعضها إلى سلالات مقاومة للمضادات الحيوية. وهذه ظاهرة معروفة، فالمضادات الحيوية تقتل نسبة عالية جداً من جرثومة السل عند استعمالها الأول، غير أن النسبة القليلة التي لا تقتل تبقى وتتكاثر فتنتج سلالة جديدة تحتاج إلى عيار أكبر من الدواء نفسه للقضاء عليها. وما لا يموت منها ينتج مجدداً سلالة أكثر مناعة، فتبرز في النهاية سلالة لا تتجاوب أبداً مع الدواء، وتعرف هذه السلالات بـ«السلالات المقاومة».
يعزو الباحثون سبب بروز هذه السلالات المقاومة إلى إكثار الأطباء من استخدام المضادات الحيوية، وخاصة المتقدمة منها، حتى عند فعالية الأدوية الأقل تقدماً. وكذلك على المريض أن يتحمّل المسؤولية حيث إن عدم الالتزام بعلاج السل حتى نهايته لا يقضي على جرثومة السل والمرض كلياً، وبالتالي تبرز سلالات جديدة تعتاد على الدواء وتتأقلم معه.
وعملت دوائر الصحة في العالم، وبقيادة منظمة الصحة العالمية، على ترويج علاج مركّز وقصير لداء السل (DOTS) يقضي على جرثومته خلال أسابيع بدل أشهر، ما يسمح بوضع المريض تحت المراقبة المباشرة. وهذان الحلّان (أدوية جديدة ومدة علاج قصيرة) ضروريّان بلا شك، غير أنّهما غير كافيين، وبالتالي لا يبدو أنّ بوادر الحد من انتشار مرض السل وشيكة.
لا يمكن فهم حقيقة المشكلة قبل أن نحدد مَن هم مرضى السل. فمعظم المصابين بداء السلّ فقراء يعيشون في ظروف معيشية قاسية يفتقرون إلى التدفئة والتغذية الضروريّتين، فيعانون من نقص في المناعة أحد أسبابه الأخرى الإصابة بمرض الإيدز. ولا نفاجأ أن أكثر من 80 في المئة من الإصابات هي في بلدان ومناطق فقيرة في أفريقيا وآسيا. والظاهرة نفسها تبرز في الدول الغربية الغنية حيث ينتشر مرض السل أيضاً بين الفئات الاجتماعية المهمّشة منها.
ويواكب سوء العدالة في توزيع المرض سوء عدالة في الحصول على الدواء. فشركات الأدوية توظّف الكثير من أموالها وطاقاتها قبل اكتشاف دواء جديد وقبول الهيئات المنظّمة له. وتبقى هذه الأدوية سرية وحصرية للشركة المكتشفة، وبالتالي مكلفة جداً وغير متوافرة للدول والفئات الاجتماعية الأكثر حاجة لها. وإلى جانب كلفة العلاج الباهظة، يتطلب العلاج أن يغيب المرضى عن أعمالهم لفترة العلاج القسرية (منعاً لاحتكاكهم بالغير وانتقال المرض)، ما يزيد وضعهم الاقتصادي ـــــ الاجتماعي سوءاً. وإذا ظلّ التعاطي مع هذه الأمراض ومسبّباتها على المستوى الطبي ـــــ العلاجي دون معالجتها اجتماعياً، فلا يمكن ترقّب حل قريب لظاهرة بروز إعادة انتشار مرض السل. وهذا يتطلب تغييراً منهجياً في السياسات الصحية الوطنية والعالمية، ينطلق من لب المشكلة الاجتماعية ولا يقف عند حدود تأمين العلاج. ولمن يظن أن هذا الطرح غير واقعي في عالمنا اليوم ـــــ وهم، للأسف، كثر ـــــ المطلوب ألا نفاجأ بعد سنوات بأسباب الفشل، وأن نحفّز الهيئات الدولية والإنسانية العالمية والوطنية على محاربة مرض السل وغيره من الأمراض الانتقالية من منطلق حقوق الإنسان.
في لبنان، سجلت بعض حالات السل خلال السنوات الأخيرة، غير أنّ الوضع لا يزال محصوراً ومضبوطاً إلى حد كبير. وتعمل مراكز مختصة عدة برعاية وزارة الصحة العامة، وبدعم من منظمة الصحة العالمية، على حصر هذه الحالات وعلاجها بسرعة. إلا أن الحذر مطلوب، وخاصة عند معرفة أن نسبة السلالات المقاومة للمضادات الحيوية عند حالات السل المعالجة سابقاً هو 62،5% مقابل 1% عند إصابات السل الجديدة، حسب بحث علمي عن لبنان أجراه الدكتور جورج الأعرج وزملاؤه عام 2004. المشكلة، بالتالي، ما زالت محدودة، لكنها تتطلّب المراقبة المشدّدة والدائمة دون إغفال الجانب الاجتماعي من المشكلة.

* أستاذ الصحّة العامّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت