أنسي الحاج
• انظرْ إلى وجهك
انظرْ إلى السماء، ليس فيها كلمة.
انظرْ إلى الأرض، ليس فيها كلمة.
انظرْ إلى المحيط، ليس فيه كلمة.
انظرْ إلى وجه الطفل، ليس فيه كلمة.
انظرْ، انظرْ إلى وجهك، ليس في وجهك لحظةَ الوجود ولا كلمة.
غزارة الكلام مِن شحّ الصدق. إذا أرادوا إسماعك غيّر سبيلك. اطفئ الشاشة. احمِ بيتك من الشلّال.
فليأتِ الآتي ولكنْ بصمت. في كلّ الأحوال سنراه. سنرى عُريه إن لم يكن في الصباح ففي المساء. حقناً للآذان. أفْضَلُ الكراسي تلك التي شَغَلها الأكثر صمتاً. وأفضل الأصدقاء، والسجناء، والطلقاء.
لا لزوم لتعداد ما نريد فلن يَرد في الحساب. ولا مَن نريد. نقول فقط: لا عذْر لمَن وَضَعنا هنا.

دُوَّيخة الألفاظ.
«الاستحقاق الرئاسي». «الاتصالات». «14 آذار ـــــ 8 آذار». «الوزير المستقيل». «الحكومة فاقدة الشرعيّة». «عين التينة». «قريطم». «الرابية». «بكركي». «معراب». «بعبدا». والأشدّ إغراء: «التواصل».
ما هذا.
مرجوحة الفراغ.
لا مكان للهرب إلاّ الدير أو دير الصليب.
أو اللجوء غير السياسي.

سبب أساسي للقرف، الظهور. التلفزيون كارثة. مرآة الرجال. يتحمّرون ويتبودرون على ظهر الناس، فضلاً عن مصيرهم. وفوق الصناعة المحليّة ضيوفنا الأجانب، يَتَمخطرون ليقولوا في الأخير: الحلّ في أيديكم!
ما هذا.
و«لا نريد أي تدخّل إقليمي أو دولي في انتخاب الرئيس».
ألا يستطيع الرئيس أن يكون متدخَّلاً فيه إقليميّاً (يعني سوريّاً وإيرانيّاً) ودولياً (يعني أميركيّاً وفرنسيّاً) من قبل هذا الإنذار، و«خالص»؟
ما هذا.
على مَن تضحك بمزاميرك يا أخ؟

لا عذْر لمَن وَضَعَنا هنا. ماذا كان يريد. أين كان فكْره. أسمعُ دعسةً في الممرّ، خطوات بلا موقف. لا يزال هناك أحد بلا موقف. حرّ؟ إلاّ إذا كان ضائعاً. دعسة بلا موقف من اليمين واليسار؟ ما هذا. ماذا يريد هذا المخلوق غير المنحاز؟ غير المخلوق؟ غير المناضل؟ غير المرشّح؟ دعسة عبثيّة. كائنٌ عشوائيّ. أهبل استهلاك. تائه بلا يهوديّة.
لا عذْر لمَن ينتظر ولا لمَن لا ينتظر. اخرجْ إلى الممرّ، تابع نحو المَخْرج، انزلْ بسرعة، أسرعْ، حاذر أن تدهسك هذه السيّارة، لا تحاذر السيّارة الثانية.
لا بدّ أن يحصل شيء.

كلّما انتشر الوعي انتشرت الضآلة. ربما أحسن. كان يكون أفضل الجهلُ مع كِبَر، ولكنْ خيرها بغيرها. هذه ضريبة الإعلام، فلنتعايش. عَرَفنا أضْرَب.
يُعطي الأدب والموسيقى أملاً أكثر ممّا تعطي الأديان. دفءٌ منبعثٌ من وجه منحنٍ فوق مريض قد يشفيه. الجَمال، قبل أن ينفضح، يجترح معجزات.
لو لم يكن الكاتب يجد متعة في الكتابة هل كان يكتب؟ بأيّ حقّ يستمتع هو ويتركنا نحن في المستنقع؟ للفنان والكاتب أن يستهزئا شَبْعَتهما، ولكن ليتذكرا أنَّ على طرف عملهما مصائر. الحيوان في الغابة يتعهّد ذويه بمسؤوليّة.
لا عذْر لمَن أنْذَر. لا حقّ بالإنذار لمَن أَنذر. على الأقوى أن يَخْدم لا أن يستقوي. القادر يَحْمل الآخرين ولا يتأوّه. هل هناك أسوأ من الادّعاء؟ نعم، الصَغَارة. الخسيس أشدّ خطراً من وباء. حذارِ الحقير، أحياناً يتنكّر بموهبة. حذارِ المواهب، غالباً ما تبحث عن مستأجرين.
لا عذْر لمَن رمانا. لا عذْر لمَن أحبّنا ليحقد علينا ولا لمَن لم يبالِ بنا. لا عذْر لأحد إلاّ مواصلة الحبّ.
وما أقربه. وأعظم ما يكون حين يكون بلا جدوى.




• الآشوري التائه
العراقيّون ملحميّون، ولو غنّوا الذات الوحيدة. سركون بولص، الذي انطفأ قبل أيام في برلين، أحد ممثّلي القوّة الأسطوريّة التي تعنيها بلاد نمرود والماء وجلجامش. منذ الستّينات كلّما تقابلنا كأنه يريد أن يقول لي شيئاً. ولم يَقُلْهُ. كذلك حين عدنا والتقينا في أوروبا الثمانينات. أراد أن يقول لي شيئاً، همّت به عيناه. ولم يَقُلْهُ.
«أقول للموت هنا،
يظنّني سفينةً والعقلَ دفّةً محطّمه
يظنّني علامة استفهام.
أقول للموت: مياه.
أقول: صوتْ.
أقول: لا.
أقول: سيف. سَمَكَةْ.
أقول أفواهٌ نساءٌ تثاؤبٌ طويلْ.
أقول أنت لي أقول ورقهْ
(أو سلَّمٌ وامرأةٌ مؤرّقهْ)
أقول دائره
أقول ساعةٌ أقول بابُ دارْ
أقول للموت هنا!
أَجرّهُ معي أُميتهُ معي».
(من قصيدة له بعنوان «تنويع على إيقاع»، مجلة «شعر»، العدد 36، خريف 1967).
بفضل عبد القادر الجنابي عرفتُ الكثير عن معاناة شبان عراق ذلك الزمان للحصول على القراءات الممنوعة، وعن جسارة انتهاجهم كتابة مختلفة، يوم «حُرّمت» قصيدة النثر بأوامر رسميّة. «جماعة كركوك»، جماعات أخرى، زرافات ووحداناً. كان الشعر لهم، مطالعةً وكتابة، عملاً سرّياً، تحت المعطف وأحياناً تحت اللغة، لغة ثانية ثالثة رابعة تحت اللغة.
جاء سركون بولص هارباً من العراق إلى لبنان. ومن لبنان طار إلى كاليفورنيا، ومن كاليفورنيا غرّد أينما كان، إلى أن حطّ في أحد المستشفيات الألمانيّة. الآشوري التائه.
لا يُعطى لأيٍّ كان أن يكون آشوريّاً، ولا أن يكون شاعراً، ولا عراقيّاً، ولا تائهاً. لا يُعطى لأيٍّ كان، ولا لأحد، إلاّ لهذا السطر: أن «يجرّ الموت معه».
والأصحّ، أن يجرّ الحياةَ وراءه.




• «بوّاب الذاكرة الفظّ»
«لم أجرؤ على إخبار الجدّة
أنّي وحشةُ الفراغ بين سريرٍ وحائط
وأنّي في كلّ حكاياتها
لم أخَفْ إلاّ من نفسي».

«فقط أن تُغمض عينك كشرطي سير لامبالٍ وتسمح للحياة بالمرور».

«وداعاً يا مساء المروج السعيدة
أيّها الممر المحروس من بوّاب الذاكرة الفظّ
أيّتها الأيدي التي رسمت شيئاً ما عند نفادِ الوقت
مذ أخْبَروني أنّ الحياة ليست فيلماً هنديّاً
صرتُ أنزع القماش كلّ ليلة عن لوحاتي الزيتيّة الداخليّة
عن مومياءاتي الجميلة
مذ أخبروني أنّ الحياة ليست كذلك
لويتُ أحلام رأسي الطويلة
ثم دسستُه في ثلّاجة».
من مجموعة «بوّاب الذاكرة الفظّ» لزينب عسّاف، الغاصّة بدموع حزنها المشرق، حيث ترى «القمر بداية النفق» وهو بين دفّتيها بدايته
ونهايته.




• أرأيت...
أرأيتَ أكثر تخلّفاً من مجدّد الأمس؟ أو أنضج من أحمق الأمس؟ وأشدّ توبةً من جانحِ الأمس؟ أكثر ما يجلوه الماضي هو الجمال. الجمال على شاشة الماضي يتلألأ ويزهو كالموج تحت الشمس، لأنه يغدو الأمّ الصبيّة الغائبة.




• يمكن
يمكن أن تكون إجراميّاً دون أن تكون مجرماً،
وجماليّاً دون أن تكون جميلاً
وصَلْباً دون أن تكون متصلّباً
ومؤمناً دون أن تكون على دين.
يمكن أن لا تنتسب إلى شيء وتُحبّكَ الأشياء، التي تَعْرفك والتي لا تعرفك...