إبراهيم الأمين
كثيراً ما قيل إنه يصعب على أبناء جبل لبنان أن يتولى ابن تبنين أو ابن صيدا اختيار الرئيس المقبل للجمهورية. وكان ابن تبنين يقول إنه إذا لم يتمكن أبناء جبل لبنان من الاتفاق في ما بينهم على رئيس يرضي بقية اللبنانيين، فلن نترك البلاد بلا رئيس، وبمقدرونا اختيار من لا يكون معادياً لبيئته أو مخالفاً لها، علماً بأن ابن صيدا، ربما، يهتم لرئيس يجيد العلاقات العامة. لكن تجربة والده الراحل، وتجربة صديق والده المقيم حالياً في السرايا، علّمته أنه لا يجوز الإتيان برئيس مزعج، لأن الخلاف بينه وبين رئيس الحكومة يعني تعطّل مجلس الوزراء، وبالتالي فإن ابن صيدا ربما يكون أكثر اهتماماً بشخصية من النوع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. هكذا هي حال روبير غانم، المرشّح الفعلي لسعد الحريري.
لم يكن البطريرك الماروني نصر الله صفير يحتاج إلى من يدلّه على الطريق. وهو ابن كسروان الذي يعرف أن الكنيسة أمام الاختبار الأهم في تاريخها السياسي، فإما أن تثبت الحضور من خلال مشاركة فعلية في القرار، وإما أن تتحول إلى مؤسسة خيرية، وجب على أبناء رعيتها أن يجبروها على إنفاق ما هو مكدّس من أجل منع الانهيار الاجتماعي والمادي لنحو نصف مليون مسيحي يقفون عند خط الفقر وتحته. وهذه المرة شعر صفير بأنه ليس في موقع القادر على انتزاع تفويض من أحد للقيام بالمهمة وحيداً. فلا التشكيلات السياسية المسيحية تقبل بدور حاسم لبكركي، ولا القوى الدولية تهتم الآن لأمر المسيحيين حصراً. وإذا ما أُجبر الغرب على المفاضلة، فإنه أقرب إلى فؤاد السنيورة منه إلى البطريرك الماروني، وهو أمر يعرفه جيداً أبناء الكنيسة من العاملين في الحقلين الدبلوماسي والاقتصادي. وبالتالي، فإن المعروض على صفير هو فرصة انتزاع توافق بين القيادات المسيحية على حد أدنى يتيح له مشاركة الآخرين من المسلمين في اختيار الرئيس الجديد.
ووفق هذه الاعتبارات، جاءت فكرة اللقاءات في بكركي، ثم فكرة اللجنة الرباعية الممثلة لأبرز القوى الفاعلة في الشارع المسيحي، وهي اللجنة التي أريد لها أن تنتهي إلى غير ما وصلت إليه، ولا سيما أن الاجتماعات التي عقدتها خلال الفترة الماضية كشفت عن عجز هائل في التوافق على الحد الأدنى الخاص بالاستحقاق الرئاسي. ودلّت، مرة أخرى، على صعوبة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لأن الانتفاضة التي يمثلها سمير جعجع، ومن قبله إيلي حبيقة في الشارع المسيحي، والمراجعة التي مثلتها حركة العماد ميشال عون، وتياره لاحقاً، دلّت على أنه لا مجال للعودة إلى زمن الإقطاع المتحالف مع الكنيسة في إدارة شؤون الرعية، حيث لم يعد الأمر صالحاً في لبنان، إلا عند غالبية درزية تعاني من ضائقة فكرية وسياسية واجتماعية دفعتها إلى أن تكون أسيرة خطاب آخر الزعامات الجنبلاطية في الجبل.
وتكشف مداولات اللجنة الرباعية التي جرت في المدة الأخيرة ثغراً كبيرة من بينها:
أولاً: إن طريقة تأليف اللجنة دلّت على نقص حاد في الاستعداد من جانب فريق 14 آذار للدخول في نقاش جدي توصلاً إلى حل. وبمعزل عن الموقع الشخصي لكل من إلياس أبوعاصي ومروان صقر، وحكمتهما التي تفوق آخرين من قادة مقررين في فريق الأكثرية، إلا أن الأمر مثّل إشارة سلبية جعلت المطران سمير مظلوم يشعر، منذ اللحظة الأولى، بأنه أمام مهمة كبيرة ومعقدة. وبرغم أن قوى المعارضة لم تتعامل بالمثل، إلا أن النقاش بشأن آلية العمل والأهداف، عكس مشكلة أخرى، تجيب عن السؤال عن سبب اختيار الأكثرية مندوبَيها إلى اللجنة، حيث إنهما لا يحظيان بثقة مطلقة ولا بتفويض شامل، ما يجعل حواراتهما في اللجنة أقرب إلى السفسطة السياسية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المطران مظلوم أكثر من مرة.
ثانياً: حاول مندوبا فريق الأكثرية، منذ اللحظة الأولى، تعديل جدول الأعمال، وبالتالي تعديل المهمة، إذ إنهما أرادا تثبيت المبادئ العامة لموقف صفير من الاستحقاق الرئاسي على أنها أساس للتعامل، علماً بأنها تمثّل رأياً لبكركي، وهو الرأي القائل بضرورة إنجاز الانتخابات ضمن المهلة وعلى أساس نصاب الثلثين مع دعوة الجميع إلى حضور الجلسة، وهو رأي ظل في حدوده غير الملزمة لأحد. لكن أبو عاصي وصقر حاولا فرض هذه المبادئ كرزمة واحدة وكأساس يُلزم الجميع. علماً بأنهما رفضا الإقرار بمبدأ نصاب الثلثين على حدة.
ثالثاً: بدا في الجولات الأولى من النقاش أن البحث في المواصفات سهل على الجميع، إذ إن هذه المواصفات جرى استخراجها عملياً من مجموعة من عظات البطريرك الماروني ومن بيانات صادرة عنه وعن مجلس المطارنة الموارنة، وأضيف إليها من جانب المعارضة صفة أن يكون الرئيس المقبل يحظى بتمثيل جدي في الشارع المسيحي. لكن ما هو صعب كان إيجاد آلية لمطابقة هذه المواصفات على المرشحين للرئاسة، لأن ذلك يتطلب أولاً جردة بأسماء المرشحين، وهنا كانت المشكلة.
رابعاً: برزت المشكلة الفعلية عند اقتراب البحث من ملف الأسماء، إذ إن فريق 14 آذار تحدث عن مرشحَين اثنين، هما نسيب لحود وبطرس حرب، وعندما قيل لهما إن الأمر ليس محصوراً بالاثنين فقط، وإن هناك آخرين من قادة فريق الموالاة، عاد الاثنان وقبلا إضافة أمين الجميل ونايلة معوض، ورفضا إضافة سمير جعجع، لأنه ليس مرشحاً، في مقابل إعلان فريق المعارضة أن العماد عون هو مرشحه. وعند هذه النقطة، أراد فريق 14 آذار إقفال البحث، لكن المطران مظلوم كان حازماً في القول إنه لا يمكن لأحد شطب أسماء مرشحين آخرين، وهم من الفئة التي تقول إنها من خارج فريقي المعارضة والموالاة، ولم يتأخر البحث حتى جرى عرض أسماء ثمانية آخرين هم: فارس بويز، جان عبيد، بيار دكاش، ميشال إده، روبير غانم، شارل رزق، العماد ميشال سليمان ورياض سلامة. لكن أبو عاصي وصقر أصرّا على أنهما مخوّلان البحث فقط في الأسماء الخمسة، لا في أسماء الثمانية. وعند التطرق إلى مسائل مثل التعديل الدستوري، تحوّل العماد سليمان وسلامة إلى خصمين لدودين رُفضا بشدة من جانب فريق 14 آذار، ولا سيما قائد الجيش، الذي بات يعدّ خطراً، برأي فريق السلطة.
خامساً: عند تأجيل الجلسة من الأربعاء إلى الجمعة، ومن ثم عقد اجتماع السبت، بدا أن اللجنة تعثرت عند ملف الأسماء، لأن فريق 14 آذار لا يريد من اللجنة سوى تضييع الوقت، وأن ينتهي الأمر على هيئة توصية يرفعها البطريرك الماروني إلى المجلس النيابي. وكان هؤلاء يعتقدون بأنه يمكن تحقيق النتيجة التي تقول بأنه «يجري تثبيت مبدأ الانتخابات قبل 24 من الشهر، ومن خلال إلزام المعارضة حضور الجلسة، وساعتها لا يعود موضوع النصاب مهماً، وأن يصار إلى الأخذ بتوصية بكركي التي يريدها فريق 14 آذار على هيئة لائحة بأسماء عدد من المرشحين، ويُترك للنواب اختيار المناسب، وعندها يكون الاتفاق جاهزاً لدى فريق 14 آذار لاختيار رئيس من صفوفه».
لكن اللجنة انتهت إلى لا شيء، وهي ستلتقي الثلاثاء في لقاء لصياغة الأوراق ورفعها إلى صفير، لا لتناقش أي أمر آخر، علماً بأن صفير سيكون أمام موقف نهائي، فإما أن ينضم شريكاً فعلياً إلى الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري، وإما أن يترك البلاد أسيرة موجة جديدة من العنف السياسي المترافق مع فوضى لا يعرف نتائجها إلا الله.