أنطون الخوري حرب
هناك مقولة شائعة بأنه «كلما اجتمع ثلاثة لبنانيين أسّسوا حزباً»، الا إن عدد الأحزاب يكاد يوازي عدد اللبنانيين، وبات الحزب الواحد يفرز أحياناً ثلاثة أحزاب أو أكثر. في ما يأتي حلقة أولى من سلسلة عن أحزاب مسيحية «عتيقة»أو «منشقة» حديثاً، نبدأها بـ«التنظيم»

طغى على «التنظيم»، منذ ظهوره أواخر الستينيات، غموض أحاط بنشأته. إلا أن الثابت أن هذا التشكيل كان محرّك التأهيل العسكري لعدد من الميليشيات المسيحية للدفاع عن «الكيان». وهو عانى الصراع على السلطة عند المفاصل السياسية، شأنه شأن بقية التجمعات المسيحية، على خلفية العلاقة التي صاغها رئيس أركانه، يومها، النائب جورج عدوان مع كل من إسرائيل وسوريا.
بدأت قصة «التنظيم» بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 و«الثورة» في لبنان عام 1958، حين كان في حزب الكتائب شبه نواة نظامية تسمى «منظمة الشباب»، ما لبثت أن تحولت عام 1959 إلى «القوى النظامية». وفي نيسان 1968، إثر انقسام الحكومة على موضوع العمل الفلسطيني المسلح، خرجت من هذه القوى، مجموعة مؤلفة من الموظف في شركة تعهدات، عباد زوين، الموظف في المالية، فوزي محفوظ، المهندس سمير ناصيف واثنين آخرين، وانطلقت في السر عن حزب الكتائب والدولة كـ«قوة ضاغطة لتأمين وحدة الصف»، بادئة نشاطها بالتوعية من «الخطر الفلسطيني المسلح»، ومن ثم بالتدريب الدفاعي لمتطوعين، بينهم حزبيون ومستقلون، للتصدي لهذا «الخطر»، وللتحضير لعمليات ضد المنظمات الفلسطينية المسلحة، وبدأ كل منهم يستحصل على سلاح فردي شخصي وبعض المتفجرات.
بين 1968 ونهاية 1975، أثارت هذه «الجماعة الصامتة» حيرة كبيرة، إذ إن محيطها يعرف بوجودها، لكنه لا يعرف اسمها ولا رئيسها ومن يقف وراءها، فبدأت المخيلات، وخصوصاً عند من شكلت لهم تحدياً، تنسج حولها مواصفات وانتماءات عديدة منها أنها تابعة للرهبان، أو فرع من الرابطة المارونية، وبعدها قيل إنها مدعومة من الشعبة الثانية.
بعد العملية العسكرية الإسرائيلية على بلدات مرجعيون وكفرشوبا وتل نحاس اللبنانية عام 1968، وجهت قيادة «التنظيم» قافلة مساعدات لهذه البلدات تضم فنيي بناء وكهرباء، ورفعت على آليات القافلة لوحات رسمت عليها خريطة لبنان وشعار «تحبه... اعمل له». وهكذا ولد علم «التنظيم» الذي ما زال معتمداً.
عام 1969، باشرت المجموعة التدرب على مبادئ فنون الدفاع في أماكن مختلفة، وبمجموعات صغيرة. وكانت أعمار المتطوعين تتراوح بين 16 و30 سنة، يتولى كل منهم دفع نفقات تدربه. وكان عام 1973 مفصلياً في تاريخ «التنظيم»، إذ انضمت إلى قيادته مجموعة من المثقفين البورجوازيين والمستقلين مثل: فيكتور جبر، جورج عدوان، نهاد فرحات، فادي حايك، ميشال ليان، إيلي أبو ناضر ورينيه القارح. وكان قد سبقهم منذ عام 1969: نجيب زوين، ميلاد رزق الله، فاضل طيار، شربل نادر، فؤاد الشمالي، طارق وطوني أبو شقرا.
انتعش الإقبال على التدرب إثر صدام الجيش والمنظمات الفلسطينية قبل سنتين من اندلاع الحرب، فأقام «التنظيم» مخيمات في مناطق عدة أبرزها في طبرية في جرود كسروان. وتم تخريج حوالى 12000 شاب وفتاة بين عامي 1973 و1975، قلة منهم أصرت على الانتساب. وبعدما توسعت المهام إلى وضع خطط تنظيمية للأحياء الشعبية المسيحية، أصبحت عبارة «تنظيم الحي أو القرية الفلانية» تتكرر على ألسنة المخططين والمشرفين، ما دفع قيادة الحركة إلى اعتماد «التنظيم» اسماً رسمياً.
وانطلاقاً من د ذلك، كان من الطبيعي أن يشارك «التنظيم» منذ يوم 13 نيسان 1975، في الحرب على كل الجبهات. وكانت المفارقة أنه اشترى السلاح من المخيمات الفلسطينية، وحتى من مخيم تل الزعتر.
في آذار 1976، نفّذ ثلاثة من أعضاء مجلس القيادة السبعة «انقلاباً»، وهم: جورج عدوان وفوزي محفوظ وفؤاد الشمالي، ثم «استعانوا» بنجيب زوين، لتأمين «أكثرية»، خلافاً لميثاق «التنظيم» الذي ينص على أن «قرارات مجلس القيادة تؤخذ بالإجماع، ولكل عضو حق الفيتو وتوقيف القرار»، وعمدوا إلى عزل عباد زوين وميلاد رزق الله وسمير ناصيف من مجلس القيادة، متسلحين بدعم رؤساء المراكز العسكرية، ليعودوا بعد ثلاثة أشهر ويتصالحوا ويجتمعوا من جديد، ما عدا نجيب زوين، الذي التحق بـ«الأحرار».
بعد تأسيس «القوات اللبنانية» التي تألف مجلس قيادتها من عضوين من كل من «الكتائب» و«الأحرار» و«حراس الأرز» و«التنظيم»، تمثل الأخير بمحفوظ وعدوان الذي فتح في تلك الفترة خطاً للعلاقة مع إسرائيل في باريس، وبدأ يرسل شباناً للتدرب فيها. وفي المقابل، فإنه، بعدما كان من أشد الداعين إلى مقاومة الدخول السوري إلى لبنان، عاد وكلف سراً أحد مساعديه، مواكبة الضباط السوريين من الكحالة حتى الشيفروليه.
سنة 1978، قامت مجموعة تابعة لعدوان بقيادة بيار نوفل من الدامور وحارس عدوان الشخصي، بمهاجمة مركز المجموعة في عين الرمانة، ما أدى إلى مقتل طوني خاطر وإصابة أربعة عناصر. ونجحت التدخلات في منع حدوث رد فعل، وخصوصاً أن بشير الجميل منع مجموعة القيادة من الهجوم على مركز عدوان، مكرساً وجود جناحين لـ«التنظيم»، حيث اعتمد عدوان ممثلاً لفريق ومحفوظ ممثلاً لآخر في مجلس قيادة «القوات». واستمر هذا الوضع حتى عام 1985 حين أصبح بيار رفول عضواً في مجلس قيادة «التنظيم»، وكانت «انتفاضة 12 آذار» من ذلك العام قد أنهت التمثيل الحزبي في قيادة «القوات» وبقي الأعضاء بصفتهم الشخصية. وحين سار إيلي حبيقة في الاتفاق الثلاثي، اجتمع جناحا عدوان ومحفوظ على رفض الاتفاق، رغم تصويت محفوظ إلى جانب حبيقة في جلسة إقراره. وبعد انتفاضة 15 الثاني 1986 بقيادة سمير جعجع، أجبر محفوظ على الاستقالة.
تعرفت قيادة «التنظيم» إلى المقدم ميشال عون سنة 1976، والتقت معه في نظرته إلى ضرورة قيام «دولة الحق» ومؤسساتها، وتوثقت العلاقة في معركة تل الزعتر، وظل التواصل الفكري حتى توليه مقاليد قيادة الجيش. ويكشف الأمين العام لمجلس القيادة الحالي عباد زوين، خلال متابعة سرده لتاريخ «التنظيم»، عن طرحه ورفاقه اسم عون لرئاسة الجمهورية، في كتاب رسمي رفعوه إلى البطريرك نصر الله صفير عام 1988 فأجابهم بأنه ليس «ابن عيلة».
وبعد ترؤس عون للحكومة العسكرية وخوضه المواجهة مع الجيش السوري، شكل «التنظيم» «المكتب المركزي للتنسيق الوطني» بقيادة بيار رفول ونجيب زوين العائد وروجيه وباسكال عزام وأنطوان أبو شقرا، وكانت مهمته تنظيم الحركة الشعبية المؤيدة لعون، وتشجيع الشبان على الانخراط في صفوف أنصار الجيش. كما شارك التنظيم في تأسيس الجبهة اللبنانية الجديدة التي كان يرأسها داني شمعون، ممثلاً بعباد زوين عن مجلس القيادة من جهة، وبممثل عن المكتب المركزي للتنسيق الوطني.
وإثر نفي عون إلى فرنسا، اندمج «التنظيم» بـ«التيار الوطني الحر» وشكل عبر «مكتب التنسيق» الجزء الأكبر من أول مرجعية عملانية لـ«التيار» سميت حينذاك «المنسقية العامة للتيار الوطني الحر»، ومهمتها تنسيق أعمال المقاومة المدنية. ومع تحول «التيار» إلى حزب سياسي عاد «التنظيم»، بحسب أحد قيادييه المخضرمين، إلى «دوره الأساسي، واستمر قوة ضاغطة تعمل على وحدة الصف». ويضيف أن التنظيم «الذي بدأ وحيداً، وفي السر، يضم في صفوفه أعضاء من أحزاب مختلفة. وكما دعم الرئيس بشير الجميل في السابق، فإنه اليوم يدعم العماد عون، ويعده قائد المقاومة اللبنانية، لذلك فإن عدداً كبيراً من أعضائه وكوادره انضموا إلى التيار، كما سواهم من المجموعات الأخرى. وهو اليوم يناضل من أجل استعادة الأسرى في السجون السورية واستعادة اللاجئين عبر الحدود الجنوبية».
إلى ذلك، شارك «التنظيم»، ممثلاً بأمينه العام عباد زوين، في تأسيس «الاتحاد من أجل لبنان» الذي يضم «حراس الأرز» و«قدامى» الكتائب والأحرار. وعن المستقبل يقول زوين: «التنظيم فكرة ترجمت إلى روحية خاصة، ميزت الترابط بين أعضائه».
وبحسرة يستخلص «أن التخلف السياسي المبني على الجهل وشهوة السلطة العمياء دمرنا مسيحياً»، خاتماً بتقويم تجربة «التنظيم» بانطباع لافت: «رغم تبايننا، فأنا أفهم مقاومة حزب الله أكثر من غيري، فبيننا تشابه قوي».
غداً «نمور الأحرار»