strong>غسان سعود
• يُهرّبون إلى لبنان عبر وادي خالد ويلجأون مباشرة إلى «غيتوات» طوائفهم

«أقلية» جديدة تتكاثر في لبنان منذ ثلاث سنوات اسمها «اللاجئون العراقيون». الرقم المعلن لهذه «الأقلية» هو ستون ألفاً، يُهرّبون إلى لبنان ويقيمون فيه بشكل مؤقت (ترانزيت) على أمل الانتقال إلى «وطن» جديد... في الانتظار يعاني العراقيون مشاكل متعددة تبدأ بظروف حياتهم اليومية ولا تنتهي بمعاناتهم مع أجهزة الدولة والمؤسسات المحلية والدولية. «الأخبار» رصدت أوضاع اللاجئين، وتنشر تحقيقاً من ثلاث حلقات، تعرض في الأولى منه رحلة النزوح من بلاد الرافدين

من دون مبرر مقنع، تزداد اليوم شراهة لبنانيين كثر إلى تبنّي «عنصرية» جديدة ضحيتها العراقيون هذه المرة، وذلك بعدما أخلى السوريون الساحة، وانكفأ الأثيوبيون والسريلانكيون وغيرهم من أصحاب الجنسيات «العالمثالثية».
يجد العراقيون أنفسهم قبالة بعض المجموعات «المستفرسة» كما يسمونها، إذ يُعتقلون ويُبقون في السجون بعد انقضاء مدة محكوميتهم، وتُفتّت عائلات عبر إعادة بعض أفرادها من دون رأفة إلى قلب المعركة الدموية في بلادهم، إضافة إلى منعهم من العمل... كل ذلك يحصل في ظلّ وجود جهات أخرى تستغل وجودهم لطلب مساعدات مالية.
لا يتمتع العراقيون بالحدّ الأدنى من حقوق اللاجئين، ويتحوّل هؤلاء الهاربون من الموت في بلادهم إلى هاربين من العدالة في لبنان، يجوز لأجهزة أمنية أن تفعل بهم ما تشاء من دون أخذ أية معايير إنسانية بعين الاعتبار. ويصل التعصب الطائفي والغيرة على الهوية اللبنانية بالبعض إلى حد التلويح بـ«مخاطر انتماء اللاجئين العراقيين الطائفي على الديموغرافيا اللبنانيّة»، حيث تُستخدم هذه العبارة ومثيلاتها لتأليب الرأي العام اللبناني على اللاجئين العراقيين.

دخول غير شرعي

الحرب في العراق لا تترك لأبناء البلد فرصة ليتقدموا من السفارات بطلبات هجرة، ولا تنتظر القذائف المبعثرة بجنون إنجاز العراقيين تأشيرة دخول إلى لبنان أو غيره من البلدان. ووسط انتشار الموت، لا يجد الناس مفرّاً من حمل بعض ثيابهم وترك أرزاقهم وثرواتهم والهرب بحثاً عن مكان آمن. ومع التضخم المطرد لأعداد العراقيين اللاجئين إلى سوريا والأردن، تشهد الحدود اللبنانية ــــــ السورية حركة انتقال مستمرة منذ أربع سنوات. فعلى طول الحدود، تنتشر عشرات المعابر غير الشرعية التي يصل العراقيون عبرها بمساعدة محترفين لبنانيين إلى الأراضي اللبنانيّة. في منطقة وادي خالد الشمالية مثلاً، ترك ثلاثة من كبار المهربين النافذين تجارة المازوت والغاز وتخصصوا في «ترانزيت البشر». أحد هؤلاء التجار تنبّأ قبل سنوات بأن نقل البضائع بين سوريا ولبنان سيصير أمراً صعباً، وتنبّأ في المقابل بأن تدفق العراقيين سيستمر برعاية أميركية وإقليمية. فسارع إلى بيع عدّة تهريب الغاز والمازوت وبدأ يجري الاتصالات لتهريب البشر.
ويقول المهرّب الذي اختار لنفسه اسماً مستعاراً هو «الحاج أحمد» إن أكثر من خمسة عشر ألف عراقي دخلوا إلى لبنان عبر معابر وادي خالد فقط.

رقابة ذاتية!

ينتظر الحاج أحمد اتصالاً من شريكه في مدينة حمص ليبلغه بحضور بعض العائلات العراقية، فينتقل في سيارته «الفان» متجاوزاً النهر الكبير الذي يفصل بين لبنان وسوريا إلى بلدة المشارفة التي تبعد مسافة نصف ساعة تقريباً عن الحدود اللبنانية وتسكنها عائلات لبنانية وسوريةهناك ينتقل العراقيون من الباص السوري إلى «الميني باص» اللبناني الذي يتسع لأربعة عشر شخصاً، وغالباً ما يزدحم فيه أكثر من عشرين عراقياً. وقد ارتفعت أجرة نقل العراقيين ثلاثة أضعاف تقريباً بين عامي 2003 و2007، فقفز من ثمانين دولاراً عن الشخص الراشد وقرابة ثلاثين دولاراً عن كل طفل إلى قرابة مئتين وخمسين دولاراً للكبير ومئة للصغير.
يمارس أحمد «رقابة» ذاتية على نقل ركابه، فيوضح أنه يرفض مثلاً نقل العائلات إلى بيروت إذا لم يكن وسطهم خمسة أشخاص ناضجين على الأقل، ويلفت إلى أنه يُبقى بعض الرجال في الوادي إذا تبيّن أن الذكور أكثر بكثير من الإناث وأنهم يثيرون الشك، علماً أن عناصر الجمارك المتمركزين على تخوم الوادي نادراً ما يسألون ركاب الحافلات عن أوراقهم القانونية، وإذا فعل أحدهم ذلك، «يحلّها المهرب بدفع خمسين ألف ليرة» كما يؤكد أحمد. ويوضح أن لكل مهرب «كشافة» يسبقه بضع دقائق ليسرّ له بـ«حال الحواجز الأمنية فيتجنبها عبر الطرق الفرعيّة». ومن الوادي، ينتقل العراقيون إلى عدة مناطق لبنانية تبعاً لطوائفهم. فيقصد معظم العراقيين المسيحيين منطقة سن الفيل وجوارها، أما الشيعة فيتوجهون مباشرة إلى الضاحية الجنوبية. العراقيون السُنّة الهاربون إلى لبنان قلّة، ويُفضّلون السكن في بعض الأحياء البيروتية الفقيرة أو في مدينتي صيدا وطرابلس.

دور المرجعيات الدينية

على الطريقة اللبنانية، غالباً ما يطلب العراقيون المسيحيون إيصالهم إلى المراكز الكنسيّة الأشورية والكلدانية التي تهتم بهم، وقد تخطى عددهم بحسب مصادر في الكنيسة الكلدانية ثمانية آلاف شخص، يعيش معظمهم في منطقة سد البوشرية وجوارها. ويوضح أمين سر المجلس الأعلى للطائفة الكلدانية في لبنان جورج سمعان حناوي أن أكثر من 750 عائلة عراقية كلدانية قدمت إلى لبنان منذ سقوط النظام العراقي السابق، مشيراً إلى أن معظم هؤلاء هجروا مناطقهم بعد استهداف كنائسهم وبدء التعرض لكهنتهم. وتقدم الجمعية الخيرية الكلدانية لهؤلاء الثياب والطعام، وقد نجحت في إدخال أبنائهم إلى مدارس خاصة، أبرزها مدرسة أم المعونة الدائمة في سن الفيل. ويعمل معظم هؤلاء في بلدات سد البوشرية، الجديدة وحي السريان، نواطير أبنية، وخصوصاً أن هذه الوظيفة توفر لهم المسكن الذي لا يستطيعون دفع إيجاره. ونجح الكلدان عبر شراكة مع المؤسسة الأوروبية للتنمية بتنظيم صفوف استلحاقية مسائية في مدرسة مار جرجس للراهبات الأنطونيات في البوشرية. ووفّرت جمعية الكلدان بالتعاون مع كاريتاس لبنان ومجلس كنائس الشرق الأوسط الطبابة والاستشفاء والأدوية لهؤلاء.
وفي المقابل، تبدو ظروف العراقيين الشيعة أكثر بؤساً، وخصوصاً أن أعدادهم تخطت أربعين ألفاً، يعيشون بمعظمهم في الضاحية الجنوبية المكتظة أصلاً بأهلها. ويفصح هؤلاء عن لجوئهم، فور وصولهم إلى الضاحية عادة، إلى مكاتب مرجعياتهم الدينية، وكذلك يقصدون مكاتب «حزب الله» وحركة أمل. لكن هذه جميعها لا توفر لهم، بحسب قول بعضهم، ولو الحد الأدنى من مقومات الحياة، إذ يسجلون أسماءهم ويحصلون على بعض المساعدات الغذائية، وتوفر لهم بعض المكاتب فرص عمل عند صناعيين وتجار لبنانيين. ويكشف بعضهم أن أحد المكاتب يسرّ لمن يثق بهم بقدرته على توفير مبلغ مالي ثابت لعائلته لقاء عودة الشبان إلى العراق للالتحاق بالميليشيات المقاتلةأما العراقيون السنّة الوافدون بأعداد صغيرة فيتوزعون عشوائياً على بعض الأحياء الفقيرة في بيروت، طرابلس وصيدا. وما من مرجعيات تهتم لأمرهم، باستثناء بعض المبادرات التي تنظمها دار الإفتاء، وكان آخرها في شهر رمضان: مئات الحصص التموينية.
وعلى رغم الفارق بين ما تقدمه المرجعيات الروحية، يؤكد معظم العراقيين أن أولويتهم الرئيسية منذ وصولهم إلى لبنان تكون في التحاقهم بممثلي طوائفهم، والتنسيق معهم بشأن الأمور الأخرى، كتوفير السكن والطعام. ويفضل هؤلاء البقاء داخل «الغيتوات» الطائفية اللبنانية، بحيث توفر كل مجموعة دينية لهم الحماية ويتوسط قادتها لدى الأجهزة الأمنية للحد من اعتقالهم، علماً أن السفارة العراقية في لبنان تجهد أخيراً لتوفير الحد الأدنى من مقومات الصمود لأبناء شعبها، وتسعى حالياً لتوفير الحصص التموينية التي تقدمها الحكومة العراقية للعراقيين في العراق. ويلاحظ وسط هذا «اللجوء الطائفي» أن العراقيين الذين تمايزوا خلال العقود الماضية بانفتاحهم بعضهم على بعض وترفّعهم عن الحساسيات الطائفية، هم اليوم مثل اللبنانيين وأكثر من حيث ارتكاز اجتماعهم على العصب الطائفي. أما «العنصرية اللبنانية» فتدفع بكل طائفة لبنانية إلى احتضان اللاجئين العراقيين المنتمين للطائفة نفسها وتوفير كل ما أمكن «لصمودهم في لبنان»، فيما عيون أبناء هذه الطوائف لا ترفّ في مراقبة أعداد الوافدين من طوائف أخرى، في انتظار إطلاق «زمّور الخطر».



هنا في لبنان... يصرفون الكره

يحمل الهاربون من العراق آلاف الروايات البشعة عن الأيام البائسة والمقلقة التي سبقت الهجوم الأميركي على العراق، مروراً بسقوط النظام واندلاع الفوضى والقتال بين العراقيين أنفسهم لأسباب ثأرية وطائفية.
عيون الأطفال، الذين يستجمعون الصور ببطء قبل أن يبدأوا الكلام المتقطع عن عشرات الإعدامات التي شاهدوها بعيونهم وسط الطرق العامة، تشير إلى نوع الكارثة ومخاطر انعكاساتها، فلا يتردد علي، مثلاً، الذي لمّا يبلغ عامه العاشر، في كتابة رسالة إلى والده الذي لم يره منذ سنتين، يهدده فيها بالقتل إذا لم يلتحق بهم فوراً في منزلهم اللبناني الجديد. وتوضح والدته أن علي لجأ إلى هذا الأسلوب في مخاطبة والده، بعدما رأى أن تهديد بعض الجيران للوالد بالقتل إذا لم يغادر فوراً المنزل في العراق، كان إيجابياً.
وبالحسرة نفسها تقول سيدة عراقية أخرى إن اللبنانيين يظنون زوراً أنهم اكتشفوا في حربهم الداخلية أفظع المآسي، فيما الحقيقة أن العراق يستنبط يومياً آلاف الابتكارات في فنون الانتقام والتعذيب. وبهدوء تُخرج السيدة ورقة من جيب عباءتها تتضمن تهديداً لزوجها يحثه على مغادرة الحي أو ملاقاة حتفه، وتتنهد قائلة إن زوجها أُعدم لأنه كان موظفاً في وزارة الاتصالات. وقبل أن تكمل كلامها، تقاطعها سيدتان وتعرضان أوراقاً تحمل تهديدات لأسباب متنوعة. وتؤكد إحداهن أن «هذا كل ما حملناه من العراق، قوائم موت بأسماء أزواجنا لأنهم خدموا يوماً في الجيش العراقي، وخطابات تهديد تمهلنا 48 ساعة لمغادرة المنطقة».
وفي إحدى المؤسسات الخيرية، تبدي سيدة أخرى أسفها لتعلّم معظم العراقيين في الأحياء اللبنانية المفردات الطائفية وتأطير أحقادهم بعضهم ضد البعض الآخر. وهم، يكرهون بعضهم بسبب التهجير الطائفي، لكنهم ما كانوا يعلمون أين «يصرفون هذا الكره» قبل أن يجدوا أن «الصرّافين في لبنان كثر».




الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث