نقولا ناصيف
عاد السفير الأميركي جيفري فيلتمان، يوم الجمعة الفائت، من لقاء جمعه بنواب قوى 14 آذار في فندق فينيسيا بانطباعات عبّرت عن حاجة ملحة إلى تشديد الموقف الأميركي من انتخابات الرئاسة اللبنانية، والإصرار على إجرائها ضمن المهلة الدستورية ووفق الآلية المنصوص عليها في الدستور. رافق السفير السكرتير الأول في السفارة بيل غرانت، والتقيا النواب الذين كانوا يعيشون، على تقدير فيلتمان، في «سجن» فينيسيا، لا في فندق.
في حصيلة الزيارة، رسمت الجهات الدبلوماسية الأميركية في بيروت واقع المعاناة التي يعيشها نواب الغالبية على النحو الآتي: لا يلتقي النواب المحبوسون عائلاتهم في سجنهم، وأخصّهم نواب الأطراف كزحلة والبقاع وطرابلس. لا يخرجون من الفندق إطلاقاً. في غرفهم لا يحرّكون الستائر خوفاً من أن يكونوا هدف قناص من مكان ما مطلّ على الفندق. بالكاد يسيّرون أعمالهم هاتفياً.
كان انطباع السفير أن هؤلاء تحت وطأة تهديد أكيد بالقتل. وهو مبّرر بقائهم في الفندق.
مغزى الانطباعات تلك ما ترسمه الجهات الدبلوماسية الأميركية في بيروت عن تشبّث واشنطن بمسار موقفها من الاستحقاق الرئاسي:
1ـــــ تنظر الإدارة الأميركية إلى التوافق على أنه إحدى الآليات التي تؤيدها إذا أفضت إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولا يعبّر تأييدها للتوافق عن تغيير في السياسة الأميركية حيال انتخابات الرئاسة اللبنانية التي يرتكز إجراؤها على احترام المهلة الدستورية والآلية المنصوص عليها في جلسة الانتخاب، وترك اللبنانيين يختارون رئيسهم بأنفسهم بلا تدخّل خارجي. من ذلك قول الدبلوماسية الأميركية في بيروت أنها تدعم أي آلية سياسية تفضي إلى انتخاب الرئيس الجديد، شرط أن يكون اللبنانيون هم من يقودونها بمفردهم. ويشير هذا الموقف أيضاً إلى تأكيد واشنطن ـــــ إذ تلاحظ وجود مناقشة واسعة ومستفيضة بين اللبنانيين لمسألة التوافق ـــــ أن لا مرشح لها للاستحقاق الرئاسي.
2ـــــ تتعامل الإدارة الأميركية مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على أساس أنها الحكومة المنبثقة من عملية ديموقراطية وشرعية، وليس لأنها حكومة قوى 14 آذار. وهو أيضاً الموقف الذي أسهبت في الإعلان عنه في الأشهر الخمسة المنصرمة بغية أن يكون قياساً لما تأمل واشنطن أن تكون عليه الانتخابات الرئاسية اللبنانية، أي انتخاب رئيس للجمهورية من خلال عملية ديموقراطية وشرعية. وعلى نحو وقوفها إلى جانب حكومة السنيورة لهذا السبب، سيكون موقفها كذلك من الرئيس المنتخب من أي جهة أتى اختياره. ولا يضير الدبلوماسية الأميركية القول إن انتخاب رئيس من طرف ثالث ضمن معيار العملية الديموقراطية والشرعية سيكون موضع ترحيب لديها أيضاً.
3ـــــ تسليماً منها بأن التوافق اللبناني الداخلي ضروري لإنجاز الاستحقاق الرئاسي بسلام، فإن تعريف التوافق يقتضي ألا يؤدي إلى فرض رئيس على اللبنانيين، على غرار القول إن هذا وحده يحظى بالتوافق عليه. بل ترى أن يكون الأمر وفق مسار ديموقراطي يحمل الدبلوماسية الأميركية على القول أيضاً إنها لا تستطيع أن توافق على وجهة النظر القائلة بأن من حق أقلية في حكومة ما أن تجمّد عمل الحكومة برمتها. الحال نفسها تنطبق على الاستحقاق الرئاسي: لا يسع أحداً القول إن المرشح الوحيد الذي ينبغي انتخابه للرئاسة، هو المقبول من الأطراف جميعاً. وهو أمر يعطل تماماً لعبة التناوب على السلطة بين أقلية وأكثرية، مع أن في الإمكان ربما ـــــ تقول الدبلوماسية الأميركية ـــــ إيجاد مرشح يقبل به الجميع.
4ـــــ في أثناء زيارته «سجن» فينيسيا، سمع فيلتمان النواب المقيمين فيه يؤكدون له إصرارهم، رغم معاناتهم واحتجازهم في هذا المكان، على انتخاب رئيس جديد للجمهورية أياً يكن الثمن. وقد أبلغوا إليه وإلى السكرتير الأول في السفارة أنهم يعون تماماً حجم التهديد بالقتل الذي يتربص بهم، بيد أنهم يريدون تحمّل مسؤولياتهم كاملة حيال الاستحقاق الرئاسي. وهذا ما يحمل الدبلوماسية الأميركية على حضّ سائر النواب على الاقتداء بزملائهم المحتجزين والمهدّدين، والمشاركة في جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية وتحمّل مسؤولياتهم توصلاً إلى انتخاب خلف للرئيس إميل لحود.
5ـــــ لا ترى واشنطن تعارضاً في الموقف من انتخابات الرئاسة اللبنانية بينها وبين أوروبا، ولا تجد فارقاً ذا دلالة بين أسلوب تحرّك الاتحاد الأوروبي المنفتح على سوريا، وأسلوب واشنطن المنغلق والمتشدد. الرسالة هي نفسها بأسلوب مختلف تفاهم عليه الأميركيون والأوروبيون، ولا سيما الفرنسيون، في معرض تعليق الدبلوماسية الأميركية على نتائج تحرّك وزراء الترويكا الأوروبية في بيروت قبل أسبوعين، ثم اتصال وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير بنظيره السوري وليد المعلم، فزيارة الموفد الخاص للخارجية الفرنسية السفير جان كلود كوسران لدمشق الأحد المنصرم ولقائه في أول اتصال رفيع بين الدولتين لمسؤولين سوريين كبار. ولكنْ في يقين واشنطن أن الرسالة هي المهمة لا الزيارة، وأن من المفيد ـــــ تقول الدبلوماسية الأميركية ـــــ البحث في عمق ما تلحّ عليه الرسالة، وهو أن المجتمع الدولي قلق جداً مما تفعله سوريا وإيران في لبنان، انطلاقاً من أن هذا البلد لن ينجح في التعبير عن ديموقراطيته إلا متى عاملته سوريا على أنه جار ذو سيادة وليس بلداً تريد السيطرة عليه. وهو المنحى الذي تحاول واشنطن وأوروبا، من خلال جهود مشتركة أو مستقلة وبوسائل شتى، حمل سوريا على الاعتراف به.
مفاد ذلك، رغم عدم رغبة واشنطن في الاقتداء بالأسلوب الفرنسي في توجيه الرسائل مقروناً باتصالات مباشرة، أن الإدارة الأميركية وجدت التحرّك الفرنسي حيال دمشق في الساعات الأخيرة مفيداً بمقدار ما حملت الزيارة رسالة قوية.
تبعاً لذلك، تفضّل واشنطن إدارة علاقتها بسوريا على طريقتها. وهي، إلى اليوم، تكتفي بتوجيه رسائلها إلى القيادة السورية عبر القائم بالأعمال الأميركي في دمشق، أو من خلال دول عربية على اتصال بالنظام السوري. إلا أن الاتصال بدمشق، تضيف الجهات الدبلوماسية الأميركية في بيروت، لا يتعدّى مستوى القائم بالأعمال حتى إشعار آخر. وتحبّذ واشنطن القول أيضاً إنها لا تتعامل مع سوريا إلا بالطريقة التي تجدها مناسبة للسياسة الأميركية، لأن دمشق «تفهم» الموقف الأميركي، وما تتوقعه منها واشنطن بإزاء لبنان. لذا لا ترى فائدة من أي زيارة أميركية لدمشق.