جان عزيز
قد تكون ساعة الحقيقة هي ما قرع من العاصمة الفرنسية مساء أمس في أكثر من اجتماع طويل بين العماد ميشال عون والنائب سعد الدين الحريري. حقيقة المواقف والنيات، والبعض يهمس حذراً، ساعة حقيقة التحالفات والتفاهمات والتقاطعات.
لماذا هي الحقيقة؟ يقول المطلعون لأن الوقت أصبح داهماً. ولأن ضغط الوقت بدأ يفرز العارض من الثابت، والمناورة من الاقتناع. والأهم لأن هذا الفرز بدأ يظهر صلب الأمور والأشخاص والقعر التفاوضي لكل طرف.
لقاءات باريس بعد ظهر أمس، وفي ليلها الطويل، مرشحة للاستمرار والاستئناف اليوم.
أما استغراقها كل تلك المدة، فلأنها عودة بالذاكرة والوقائع والخلفيات والتطلعات، إلى عامين ونيف مضيا.
ففي يوم من تموز عام 2005، وصل النائب المنتخب حديثاً عن بيروت، سعد الدين الحريري إلى الرابية. كانت الانتخابات النيابية قد طوت صفحتها على أعماق اصطفاف حزبي ومذهبي في تاريخ لبنان المعاصر. ثلثا كل من الطوائف اللبنانية، على الأقل، تراصفا خلف زعامة كل منها. حتى صار المشهد واضحاً، لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، إلا لمن يرفض حقائقه. وكانت الحكومة العتيدة قد فتحت آلية إيجادها، بحثاً عما سمي طويلاً، إعادة تكوين السلطة في لبنان، بعد انتهاء زمن الوصاية.
لم يكن الحريري بمفرده عند لقاء الجنرال، ولا الأخير كذلك. دار الحديث مكثفاً يومها، في السياسة والنيابة والوزارة والرئاسة، حتى بلغ مرحلة متقدمة من الشفافية والمصارحة.
قيل إن الحريري الشاب نظر إلى الجنرال نظرة بوح، قبل أن يسرّ إليه بكلام مفاجئ. قال له: أنا أعتبرك مثل والدي، وحلمي أن أراك رئيساً للجمهورية، وأكون رئيساً للحكومة في عهدك.
بعد أيام قليلة وصلت إلى بيروت نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، اليزابيت ديبل. بدأت جولتها في الرابية باكراً، التقت عون وبحثت معه مسألة الحكومة العتيدة وما يجب أن يليها. وما لبث أن تردد أن ديبل شجعت الجنرال على ملاقاة الحريري في منتصف الطريق، والدخول في الحكومة المقبلة، على أساس الشراكة المتوازنة المطلوبة لتكوين سلطة ما بعد الوصاية. استكملت ديبل جولتها على باقي الأطراف، أسمعت الكلام نفسه، وسمعت التجاوب المطلوب، وعادت إلى بلادها متفائلة كما قيل وقالت.
بعد يومين على مغادرة ديبل، انتقل العماد عون في زيارته اليتيمة إلى قريطم. كانت الوجوه بشوشة، والانشراح سيد الموقف. المضيف لم يخف اغتباطه، والضيف لم يتأخر عن ملاقاته بالتصريح بأن الاتفاق بين الرجلين يتخطى نسبة خمسة وتسعين في المئة من وجهات النظر وبرنامج العمل.
ثلاثة أيام مرت على الاتفاق النسبي الساحق هذا، قبل أن تنفجر سيارة مفخخة صباحاً في منطقة الرابية. سرعان ما تبين أن المستهدف بها إلياس المر، وزير الدفاع وصهر رئيس الجمهورية آنذاك. فجأة وفي شكل متزامن، وإن غير مترابط سببياً ولا منطقياً، تسارعت التطورات أو تدهورت، بالتعبير الأدق. تراجع الاتفاق بين الرابية وقريطم، حتى علق عند عقدة الحقيبة الأساسية المطلوبة لتكتل التغيير والإصلاح التي كان معلوماً أنها وزارة العدل. وفي المقابل تقدمت حظوظ التفاوض الحكومي في اتجاهات أخرى. وفي أقل من 48 ساعة، وافق «فريق 14 آذار» على إعطاء إميل لحود ما رفض إعطاءه لميشال عون. ولدت حكومة فؤاد السنيورة، وبدأ المشوار المأزق.
المواكبون من قلب الأحداث، منذ تلك الفترة وحتى اجتماعات باريس أمس واليوم، يؤكدون أن الحقيقة الكاملة لتلك التقلبات المفاجئة لا تزال في بعض مكوناتها موضع تحليل وتخمين ألغاز وأسرار. غير أن قسماً آخر منها بات معروفاً، وهو المتمثل في الضغوط الهائلة التي مورست لإجهاض الاتفاق مع عون وإسقاطه بأي ثمن ولقاء أي مقابل، حتى ولو كان البديل رئيس الجمهورية الذي رفض الحريري لقاءه، أو المأزق الذي يفترض بأي سلطة تتطلع إلى ممارسة دورها، تجنبه. بعض تلك الضغوط داخلي مارسه الحلفاء المعروفون، لكن بعضها ظل أجحية، وخصوصاً ما يمكن أن يكون خارجياً منه في ظل انفتاح غربي وعربي آنذاك على مختلف الأطراف، وفي ظل عدم وجود أي سعي فعلي إلى تطبيق سياسات العزل أو الاستقرار أو الفيتوات.
بعد سنتين ونيف تعود المحاولة نفسها من باريس هذه المرة. لكن الظروف تبدو أكثر ضغطاً ووطأة ودهماً. فضغوط الحلفاء على الحريري قيل إنها صارت علنية، وتردد أنها أبلغت صراحة، وهو ما اقتضى نقل الاجتماع من العاصمة اللبنانية إلى الباريسية. أما تجاذبات الخارج التي لم تكن قائمة صيف سنة 2005، فباتت اليوم في أوجها. حتى إن البعض يسأل أنه في ظل عدم حصول أي تقدم على خط واشنطن ـــــ طهران، وفي ظل التوتر المستمر على محور الرياض ـــــ دمشق، كيف يمكن أن تشهد بيروت توافقاً، أو تنتج رئيساً؟ وبالتالي هل ما كان أكثر سهولة قبل عامين، إن لجهة الظروف الخارجية، أو لجهة موضوع التفاوض، أي تشكيلة الحكومة الجديدة آنذاك، وأُجهض يومها، هل يصير اليوم ممكناً وسط تهويلات المنطقة المتزايدة، وقرارات جورج بوش الحصارية المتواترة، وحول المنصب الأول في النظام اللبناني، رئاسة الجمهورية؟
في لقاء العماد عون ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية بالبطريرك الماروني في بكركي في 11 تشرين الأول الماضي، قيل إن الرجلين قالا للبطريرك: لماذا لا تجري امتحاناً لنا جميعاً؟ ادعنا إلى لقاءين منفصلين، واطلب منّا كمعارضة ومن الموالاة، أجوبة وقرارات في كل المسائل الأساسية. لنرَ مَن يقدر على إعطائها فوراً من دون مراجعة أحد أو سؤال جهة أو إجراء اتصال هاتفي. في باريس أمس واليوم، بعض من هذا الامتحان قد أُجري، ونتائجه ستكون معروفة في 12 الجاري أو بعد باثني عشر يوماً.