بشتفين ــ أميمة زهر الدين
في لبنان اليوم ثلاثة أنوال، واحد في بيت شباب وآخر في الزوق وثالث في بشتفين. لكل منها طابعه الخاص. فعباءة بيت شباب تختلف عن مثيلتها في الزوق، وكلتاهما تختلفان عن العباءة الشوفية

نشطت صناعة حياكة النول بشكل ملحوظ قبل الحرب الأهلية في لبنان، لتصبح العباءة اللبنانية مفخرة لسيدات المجتمع الأجنبي واللبناني. ولم يقتصر لبس العباءة فقط على السيدات بل الرجال أيضاً.
يرقى النول إلى الألف الخامس قبل الميلاد، ويتألف من إطار خشبي يشتمل على خيوط ممدودة بالطول تعرف بـ«السداة» وخيوط مستعرضة تتقاطع معها تعرف بـ«اللُّحمة». وتشد أطراف خيوط «اللحمة» إلى قطعة خشبية تعرف بـ«الوشيعة» أو المكوك الذي بواسطته تمر خيوط اللحمة عبر خيوط «السداة».
عرفت العباءة في التاريخ اللبناني منذ مئات السنين عندما كان أمراء لبنان يلبسونها باستمرار وكانوا يأمرون بصنعها من الحرير في فصل الصيف ومن الصوف الطبيعي في فصل الشتاء، وكانت العباءات كلها تحاك على النول.
في بلدة بشتفين جلست هنا فياض تخبرنا قصة عائلتها مع النول، «ورث المرحوم أبي الشيخ محمد فياض هذه الحرفة عن والده، وهي في بيتنا منذ أكثر من مئة وعشر سنين. جدي كان أول من أدخلها الى هذه المنطقة. تعلمها من والده سنة 1936 وهو بعمر 12 سنة وكانت تقتصر آنذاك على حياكة العباءات التقليدية لرجال الدين ولكن والدي بعدما برع فيها حاول تطويرها فاستحدث ثماني «دويسات» لابتكار «نقشات» ورسوم وأنواع قطب جديدة ميزت أشغاله، فحاك أروع العباءات النسائية والرجالية حتى أهديت عباءاته الى الملوك والأمراء، أمثال هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة، رائدة الفضاء السوفياتية فالنتينا كريشيكوفا، وفيدال كاسترو.
وتضيف: «أحب أبي حرفته إلى أبعد الحدود فزاولها مدة 64 عاماً من دون انقطاع. عام 1969 دعته وزارة السياحة للاشتراك في الأسبوع اللبناني الذي أقيم في بروكسل فاصطحب نوله اليدوي معه وشارك في المعرض، وشارك في عدة معارض أخرى حتى نالت عباءته جائزة الأونيسكو للمنطقة العربية عن لبنان، وأُطلق على العباءة اسم «عباءة الأمراء» وأقيم له حفل تكريم في قاعة الأونيسكو عام 2001. وقد بقي يزاول حرفته حتى وافته المنية العام الماضي».
تفتخر هنا بأنها تعلمت الحرفة عن أبيها وبرعت فيها وشقيقها حسن، وتقوم بدورها بتعليمها لابن شقيقها.
وتروي هنا «أن السيدة أنيسة نجار مديرة مدرسة إنعاش القرية حاولت إقامة دورة لتعلم هذه الحرفة، ولكن الطلاب لم يستطيعوا الاستمرار نظراً إلى صعوبتها، وحتى النائب جنبلاط أقام منذ حوالى 15 سنة دورة في قصر بيت الدين لتعلم هذه الحرفة وقد دفع لوالدي راتباً لتعليم الشبان هذه الحرفة فاصطحب معه ثلاثة أنوال وحاول تعليم بعض الطلاب الذين دفع لهم جنبلاط راتباً لتعلّم هذه الصنعة كي لا يطرق الانقراض بابها، ولكن قلة استطاعوا التعلم نظراً إلى صعوبتها وما ينتج عنها مستقبلاً من آلام في المفصل والرقبة الى مشاكل أخرى صحية».
أما عن كيفية تصريف الإنتاج فتقول هنا: «لقد عُرِف والدي بجودة إنتاجه حتى أصبح بيتنا مقصداً لكثير من الشخصيات التي ترددت إليه باستمرار كالسفراء والقناصل وآخرين. فاتسعت المشاريع وتعرف والدي برجل الأعمال النائب إميل البستاني الذي أُعجب بعباءاتنا وطلب منه توفير كميات من الأشغال وفق عقد لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، وكانت زوجته السيدة لور تأتي باستمرار لتسلم الأشغال، حتى بات الشيخ أبو حسن محمد فياض شخصية حرفية لبنانية ذائعة الصيت، وقد قامت وزارة السياحة بتعليق صورته وهو يعمل على نوله في باحة المطار وسفارات لبنان في الخارج.
في السنوات الأخيرة قامت وزارة الشؤون الاجتماعية بدعم الحرفيين بعد ترميم بيت المحترف اللبناني، ولكن منذ السنة الماضية وبعد الأحداث الأخيرة توقفوا عن الطلب.
وتؤكد هنا «أن هذه الحرفة لم تعد تكفي لإعالتنا ومع ذلك ما زلنا مستمرين ونحاول أنا وأخي بعناد وصبر إكمال الطريق الذي أراده المرحوم والدي الذي كان يعتبر هذه الحرفة فخراً للبنان وعزاً لأبنائه، وإنما الاستمرار بها عبارة عن تعلّقنا بجذورنا».
وتضيف هنا: «نحن اليوم نصارع للإبقاء على هذه الحرفة، ولكن حين يأتي اليوم الذي لن تكفي فيه لإعالتنا، سنكون مجبرين على التخلي عنها والبحث عن وسيلة أخرى للعيش الكريم».