strong>ثائر غندور
  • مرض وراثي سيحرمه نعمة النظر... لكنه لا يمنعه من الحلم

  • عاش محمود عبد الخالق (30 عاماً) أعواماً طويلة يعاني مرضاً في عينيه قبل أن يكتشف بروفسور متخصص طبيعة المرض الوراثي الذي يعانيه وسيحرمه نظره قريباً. في الانتظار، يحاول محمود الاستفادة قدر الإمكان من نعمة النظر عبر القراءة أولاً... وأخيراً!

    منذ ستة عشر عاماً، قال له طبيب عيون: «روح يا إبني بلا دلع ما فيك شي». لم يصدّق الطبيب حينها أن محمود لم يكن يستطيع قراءة ما هو مكتوب على اللوح في الصف على رغم أنه يجلس في المقعد الأول، وشاركه الأهل في هذا الموقف.
    آنذاك، كان محمود عبد الخالق يدرس لتقديم الشهادة المتوسطة. اعتبر الطبيب أن المشكلة تقتصر على إرهاق التلميذ لعينيه بالقراءة. فوالده يعمل في إحدى المطابع، وهو يقرأ كلّ الكتب الدينية التي تطبعها المطبعة. وإزاء إصرار الطبيب على موقفه، وجد محمود حلاً لنفسه بأن نقل كلّ شيء عن دفتر زميله في المقعد الدراسي، واستمرّ على هذه الحالة طوال فترة الدراسة في الثانوية العامة.
    لكن الحالة الصحيّة لمحمود استمرّت بالتدهور حتى وصل إلى درجة لم يعد يستطيع فيها مشاهدة التلفزيون إذا زادت المسافة بينهما عن نصف متر. بعدها وصل إلى مرحلة عدم القدرة على رؤية شيء بشكل واضح، وبقي أطباء العيون الذين قصدهم يصرّون على أنه «يتدلّع».
    أدّت وساطة قام بها أحد الأقارب إلى أن يقصد محمود، أخيراً، بروفسور في جراحة العيون وافق على عدم تقاضي «فحصيّة» لا تتناسب مع راتب الوالد الذي يعمل بشكل مياوم. فخضع لعدّة صور على نفقة الطبيب، ما كشف عن مشكلة صحية نادرة الوجود لم يستطع الطب إيجاد حلّ لها إلى اليومهو مرض وراثي تناقلته عائلته عبر الأجيال، لأن لا أحد من أقاربه الحاليين يعانيه. ويتلخص هذا المرض بضعف في أعصاب شبكة العين ما يجعل مرور المادة المسؤولة عن رؤية الألوان، والتي تحمي من أشعة الشمس، صعباً جداً. وعندما وصل محمود إلى طبيبه، كانت أعصاب الشبكة في حالة اهتراء مستمرّ. أجرى البروفسور وفيق سنو عملية تلحيم للأعصاب حتى لا تهترئ بالكامل، وذلك على حسابه الخاص أيضاً، لكن هذا الإجراء ليس علاجاً للمشكلة. فالأعصاب مرتخية، وما زالت ترتخي أكثر فأكثر «وما عليّ إلّا انتظار أن يطوّر الطب علاجاً لهذه المشكلة».
    لا ينسى محمود فضل هذا البروفسور عليه لأنه ساهم في تأخير فقدانه لنظره بشكل كامل، وهو يرى بنسبة عشرين في المئة لكنه لا يستطيع الرؤية ليلاً ولا ارتداء نظّارات شمسية في النهار.
    تشكل نظارته جزءاً من وجهه، نسأله عن عدد درجات عدساتها فيجيب: «لم أعد أعرف، لكن أكيد أكثر من عشر». في السابق كان يعاني ضعفاً في النظر إلى البعيد، ومنذ فترة لم يعد يستطيع النظر إلى القريب. أما محاولاته البحث عن علاج لم تنته، فقد أرسل الصور الشعاعية لشبكة عينيه إلى كوبا (التي تتميّز وإسبانيا بأفضل نظام طب عيون في العالم) عبر الدبلوماسي في السفارة الكوبية، وصديقه، إدوارد إغلاسياس. لكن بعد إرسال الصور، انتقل إغلاسياس من لبنان إلى دولة أخرى ولم يصل الردّ بعد.
    محمود ليس من النوّع الذي يُرهق الناس الذين حوله بوضعه الصحي، لكن من هو قريب له، يُمكن أن يُلاحظ حزناً داخلياً عميقاً عنده. فهو فقد لذّته الأساسية في الحياة: القراءة، من دون أن تعوقه مشكلته عن الحلم بمستقبل أفضل لوطنه من خلال اهتماماته السياسية والثقافيةيتذكر محمود (ثلاثون عاماً) أنه لم يكن يتوقف عن القراءة النهمة للكتب الدينية. فهو تربى في منزل ملتزم دينياً حيث أُجبر في سنّ العاشرة على ممارسة الشعائر الدينية تحت شعار الترهيب من جهنّم، وقرأ كتباً مثل «السيرة النبوية» لابن هشام والأحكام بين عقيدة وشريعة وغيرها... لكنه لم يكن يقرأ شيئاً عن الحوار الإسلامي ــــ المسيحي أو العلمنة «لأنه لا يجوز ذلك»، ودرس الدين لفترة على يد إحدى المجموعات السلفية.
    في الثانوية فُتحت أمامه آفاق التعرّف بـ«الآخر الشيعي» بسبب وجود طلّاب من الشمال والبقاع والجنوب في مدرسته. هذا الاختلاط اضطره إلى قراءة الفكر الديني الشيعي، وعبره تعرّف بالماركسية. كيف ذلك؟ يقول إنه خلال مناقشته زملاءه من الشيعة وجد أن هناك أسئلة كثيرة لم يستطع الإجابة عنها عبر الفكر الديني السني فقرأ العديد من الكتب الشيعية، وأحدها «فلسفتنا» للسيد محمد باقر الصدر الذي يضمّ نقداً مهماً للماركسية. هكذا عرف أن هناك ما يسمى ماركسية، هو الذي نشأ في «الطريق الجديدة» ولم يخرج منها إلّا بعد الحرب الأهلية.
    في الجامعة، درس محمود الرياضيات العامة في معهد العلوم التطبيقية، وهناك تعرّض للصدمة الكبرى... حين تعرّف بـ«المسيحي» و«الدرزي». فقد شعر بأن كلّ ما بناه من بنى فكرية تهاوى فجأة. ولم يعد الدين يستطيع الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها. في هذه المرحلة ترك الجامعة لأن أهله اشترطوا عليه أن يستمر في التديّن حتى يعطوه مصروف الجامعة.
    أراد أن يحطّم نفسه. لجأ إلى الشرب وإقامة العلاقات مع النساء. بعد فترة تعرّف بمجموعة شبّان تنتمي إلى أحد الأحزاب الشيوعية. انتسب إلى هذا الحزب (وهو خارجه اليوم لعدم إيمانه بالصيغ الحزبية في لبنان) بهدف تدمير ذاته بشكل كامل. لكن «في هذا الحزب وُلدت من جديد» واقترب من الماركسية بشكل كبير فوجد فيها قدرة على التخلّص من كلّ أنواع الخضوع، إذ «يُمكن أن تناقش بحرية في كلّ شيء، وهذا ما تفتقر إليه في كلّ الأديان»هاجس آخر يسيطر على محمود غير مشكلة عينيه هو هاجس فلسطين الذي يؤرّخ بداية وعيه على الدنيا. يتذكّر جيداً كيف كان يركض في شارع الإطفائية في «الطريق الجديدة» وحيداً خلال الاجتياح الاسرائيلي، فيما كان الجيش الاسرائيلي يدكّ مواقع المقاومة الفلسطينية على بعد أمتار منه في محيط الجامعة العربية. كان يسمع أمه تقول «الله يهدّ اسرائيل» ولم يكن يعرف من هو الإسرائيلي، لكنه في تلك اللحظة رفض الإسرائيلي من دون أن يفهم لماذا. عرفه لاحقاً. مغتصب استوطن في أرض ليست له وطرد شعبها. ثم وقعت حرب عناقيد الغضب عام 1996، وما رافقها من مجازر بحق اللبنانيين. بعدها بفترة قليلة رأى صورة الطفل الفلسطيني فارس عودة يرشق الدبابة الاسرائيلية بحجر، ثم صورته شهيداً وبيده حجر. حاول عندها الانخراط في المقاومة، لكن الأمور لم تجر كما كان يتمنى. فهو لم يتمكن من الانتساب إليها، والأسباب ليست متعلقة بعدم قدرته أو رغبته في التضحية، بل هي مرتبطة بأمور خارجة عن إرادته.
    لكن فلسطين لم تتوقف عن التدخّل في حياته. فعندما كان يدرس المحاسبة في أحد المعاهد الخاصة، تعرّف بدارين. هي زميلته في الصف، لكنه لم يكن يتحدث إليها إلى أن اكتشف يوماً أنهما ذاهبان معاً إلى إحدى التظاهرات المؤيدة للانتفاضة الفلسطينية. ربطتهما علاقة صداقة لمدّة سنة، وبعدها «خطبة» لعامين، ثم زواج منذ شهر أيار الفائت.
    أمر واحد لا يجرؤ محمود، صاحب العينين البنيتين، على القيام به هو إنجاب طفل «رغم أني أعشق الأطفال»، خوفاً من أن يورثه مرضه أو يكون عاجزاً عن توفير حياة كريمة له كما يريد هو.




    القراءة والأطباء

    علاقة محمد مع الأطباء ليست في أفضل حالاتها. يفضّل أن يقصد فقط المتخصصين منهم، الـ«بروفسوريه» في جراحة العيون فقط، ذلك أن طبيب العيون «العادي» لا يملك المعدّات اللازمة لفحصه. وهو يزور البروفسور كلّ سنة ونصف سنة أو سنتين ويغيّر العدسات كل ثلاث سنوات وذلك بسبب وضعه المادي.
    مرض محمود حرمه متعته الرئيسية في الحياة، القراءة التي كوّنت ثقافاته واهتماماته طوال ثلاثين عاماً. اليوم، لا يستطيع قراءة الصحف، وعندما يجد كتاباً يرغب في قراءته يصوّر الصفحة بنسبة مئتين في المئة، لكنه لا يستطيع القراءة أكثر من خمس عشرة دقيقة، وما يثير اهتمامه أخيراً «علم قراءة الكف».