إبراهيم الأمين
طوى الجيش اللبناني أمس صفحة سوداء. وإنجازه القضاء على مجموعات «فتح الإسلام» فتح الباب أمام نقاش ومراجعة تخص كل ما يتصل بهذه المعركة، من ظروف تشكل هذا التنظيم وأشكال الدعم التي تلقاها من داخل لبنان وخارجه، وصولاً إلى طريقة العمل التي استخدمت خلال الفترة السابقة على اندلاع المعارك، وصولاً إلى المعارك نفسها. وإذا كان من غير المتوقع مسارعة الجيش اللبناني إلى إجراء عملية تقويم شاملة لأجل استخلاص العبر على الصعيد القتالي والتسليحي، فإن الحاجة إلى عدم طي الصفحة الأمنية ـــــ السياسية تفرض مقاربة مختلفة لهذا الملف، وذلك لأجل أمور عدة من بينها:
أولاً: تحديد المسؤولية الفعلية عن نمو هذه الظاهرة واتجاهات العمل التي كانت قائمة لديها، وحقيقة الأجندة التي عملت عليها، وأشكال التواصل التي كانت قائمة بينها وبين قوى أخرى مسلحة أو رسمية في لبنان أو خارجه.
ثانياً: إجراء المراجعة التي تهدف إلى تنظيم العمل الأمني في لبنان بعد التوسع الذي طرأ على عمل الأجهزة الأمنية إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث جرى بناء جهاز متكامل وقوي هو فرع المعلومات الذي يتبع سياسياً لفريق «المستقبل» وله صلات وأعمال تعاون مع أجهزة أمنية عربية ودولية فاعلة جداً، إضافة إلى عملية الحصار التي تعرضت لها مديرية المخابرات في الجيش اللبناني والأمن العام وتحويل جهاز أمن الدولة إلى مكتب خدمات دون تركه ينمو لوحده. فيما صار لبنان ساحة لعمل أكثر أجهزة الاستخبارات في المنطقة والعالم. وهي الساحة التي توسعت مع وصول قوات إضافية من القوات الدولية إلى لبنان، ومع رفع البعثات الدبلوماسيبة العربية والغربية في لبنان من مستوى جهوزيتها بحجة مواجهة الأخطار التي تتهددها بفعل الاضطرابات الأمنية في لبنان.
ثالثاً: العودة إلى البحث في المرجعية السياسية المتحكمة في عمل الأجهزة الأمنية مجتمعة، وإلغاء الأعداء المتعددين، حيث إن من الأجهزة من يركز على العدو الإسرائيلي ويراقب تحركات الأجهزة الأمنية الخارجية، ومنها من ينحصر عمله في مراقبة القوى السياسية المعادية للحكم، ومنها من هو متخصص بسوريا ومن يعمل معها. ومنها من يتولى جمع المعلومات بصورة عشوائية دون وجود آلية لفرزها وتوزيعها حسب الاختصاصات.
رابعاً: تحديد الثغر التي رافقت الحديث عن الوجهة السياسية للتعامل مع المجموعات الإسلامية المتشددة في لبنان، والحسم نهائياً بين الأخذ جدياً بما تمثله «القاعدة» من تهديد لا يمكن عزله عما يجري في المنطقة، وبين ما يخص التوتر السياسي بين لبنان وسوريا من جهة، وبين ما يتصل بجعل لبنان «تنفيسة» لعمل أجهزة أمنية عربية، مثل الأردن والسعودية ودول أخرى تعاني من «تخمة» العناصر التي تريد القتال والجهاد وما إلى ذلك.
خامساً: إيجاد الإطار الرسمي الذي لا يجعل عملاً أمنياً محصوراً في إطار مخطط شامل. ولا يدفع بالجيش من جديد نحو مواجهات بدا أنها ضمن مخطط لأجل تصفية المخيمات الفلسطينية لا كواقع اجتماعي ـــــ أمني، بل في سياق التخلص من عبء المخيمات ومن عبء اللاجئين وهو عبء لا يقع على لبنان وحده، بل على العالم كله، وجعل مسألة التوطين مسألة سهلة يمكن معالجتها بشكل من التعويضات المالية.
سادساً: إعادة النقاش حول وظيفة الجيش اللبناني في مواجهة مسائل من هذا النوع وحدود دور قوى الأمن الداخلي، والتخلص من الثغرة الكبرى التي أدت في بداية الأحداث إلى ارتكاب مجزرة بحق جنود الجيش ولم تسمح له بحسم الأمر خلال وقت قصير. بينما كانت الأمور تهدد المنطقة الشمالية برمتها لو أن عملية التواصل بين مسلحي المخيم ومن معهم في طرابلس وجوارها قد نجحت.
سابعاً: الكشف على الأبعاد العملياتية لهذه المجموعات المسلحة وحقيقة علاقتها بأحداث أمنية جرت في لبنان خلال العامين المنصرمين، وحول دورها في الاغتيالات والتفجيرات ذات الطابع السياسي. وحسم الجدل حول قدرة مجموعات كهذه على تنفيذ مثل هذه العمليات وحول ارتباط ذلك بنقل مجموعات القاعدة نشاطها إلى لبنان من جهة وحول ارتباط هذه العناصر بأجهزة أمنية عربية أو أجنبية من جهة ثانية.
على أن هذه المراجعة يجب أن تشمل أيضاً الواقع الخاص بالمؤسسة العسكرية، ولا سيما أن الرئيس فؤاد السنيورة قال في كلمته أمس إن مخيم نهر البارد سوف يكون من الآن فصاعداً في عهدة القوات النظامية اللبنانية، ما يعني أن مخيم نهر البارد سوف يكون أول مخيم فلسطيني خالٍ من السلاح الفلسطيني وسوف يكون تحت إمرة القوات المسلحة اللبنانية، وهي تجربة قد تكون مفيدة على أكثر من صعيد، وخصوصاً أن هناك نقاشاً سلبياً حول وظيفة السلاح الفلسطيني في مخيمات لبنان. لكن الخطير في الأمر هو محاولة أطراف محلية ودول عربية ودول خارجية في الدعوة إلى تعميم هذا النموذج على بقية المخيمات الفلسطينية في لبنان، ما يجعل الجيش أمام مهمة سوف تكون أكثر قساوة من التي جرت في نهر البارد. عدا عن أنها قد لا تكون خاضعة لنفس نظام الضوابط التي جرت فيه أحداث البارد، الأمر الذي يطرح سؤالاً حول طريقة مناقشة فريق الحكم من جهة والقوى الأمنية من جهة ثانية لمستقبل العلاقات اللبنانية ـــــ الفلسطينية، وخصوصاً أن الخلافات داخل الشارع الفلسطيني عميقة للغاية.
من جهة ثانية، فإن ملف الإعمار لما هدمته هذه الحرب سوف يكون أمام اختبار آخر. ولا سيما أن رئيس الحكومة ربط إعمار المخيم عملياً بإعمار محيطه، والمحيط ليس المتضرر من المعارك الأخيرة ولكنه المتضرر من سياسة الحكومات التي تعاقبت على لبنان منذ قيامه، وهو الأمر الذي يفرض أسئلة عما إذا كان الإعمار سوف يلغي الحدود العقارية أو الجغرافية بين المكانين، وبالتالي يفتح الباب أمام علاقة أهلية بين المقيمين هناك بما ينكر أي نوع من الفروق، وبما يفتح الباب أمام عملية «نصب» باسم الفلسطينيين من جهة، وإعادة إنفاق وفق خطط تأخذ بعين الاعتبار أعمال التوسع السكاني الذي يعني في نهاية المطاف اندماج أبناء المخيمات مع المحيط السكني منهم، وهو أمر له إيجابياته على أكثر من صعيد ولكنه يجيب عن السؤال الدائم: هل تحقق التوطين؟