نقولا ناصيف
يعتقد بعض أفرقاء 14 آذار أن موقفي الرئيس أمين الجميل والنائب بطرس حرب من جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية أضعفا حجتهم في التلويح ـــــ والتهديد أساساً ـــــ بإجراء الاستحقاق بنصاب النصف زائداً واحداً: الأول قائلاً بانتخاب بالإجماع، والآخر بربط استمرار ترشّحه للرئاسة بالثلثين. والموقفان يصبان في استنتاج واحد هو ضرورة عدم تفرّد فريق دون الآخر بالاستحقاق الرئاسي. ويمثل الرجلان، في الواقع، وجهة نظر متشعبة الاتجاه:
1 ـ أنهما الوحيدان، وأكثر من أي من حلفائهما في قوى 14 آذار، اللذان يقفان عند تقاطع لبنان ما قبل الطائف ولبنان ما بعده. عرفا لبنان القديم، وخبرا عن قرب سني الحرب ومرحلة ما بعدها بكل وجوه النزاعات السياسية والدستورية التي رافقتها. الجميل نائباً للمرة الأولى عام 1970، وحرب نائباً للمرة الأولى عام 1972. الأول رئيساً عام 1982 في حقبة كان خلالها النزاع على الصلاحيات وكيان الدولة وبقائها والدور المسيحي والاشتباك الطائفي، ومع سوريا مصدراً رئيسياً لزعزعة ولايته، والآخر مشاركاً في مداولات الطائف لإعادة توزيع الصلاحيات والسلطات، ووزيراً في أولى حكومات ما بعد إقرار الإصلاحات الدستورية عام 1990. وهكذا يبدوان معنيين تماماً بالاستحقاق الرئاسي والحفاظ على ما يتعدّى نصاب الثلثين، وهو تحقيق الإجماع على انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية من أجل أن يحكم. جاء الجميل رئيساً بإجماع 77 نائباً من 83 اقترعوا، فأتاحوا له أن يحكم سنة قبل أن يتهاوى عهده تحت وطأة الصراع الأميركي ـــــ السوري في لبنان. وربط حرب مضيّه في ترشّحه الخميس الفائت، وهو الثاني بعد عام 1998، بتحقيق توافق على إجراء الاستحقاق الرئاسي ومن ثم الإجماع على الرئيس المقبل. ومع أن أياً منهما لم يقترع في انتخابات رئاسية عندما كان الاستحقاق شأناً لبنانياً إلى حدّ بعيد حتى عام 1970، إلا أنهما عايشا طبقة سياسية امتهن أركانها المناورة والتجاذب والصراع على السلطة من غير أن يضربوا الاستقرار الداخلي وكيان الدولة والأصول الدستورية ويتخلّوا عن الحدّ الأدنى للبننة الاستحقاق. فأجريت كل الاستحقاقات حتى ذلك الحين وفق نصاب الثلثين، وسلّم الجميع للرئيس المنتخب، من الدورة الأولى أو الثانية، أن يحكم. وهو مغزى مناداة الجميّل وحرب بنصاب الإجماع، لا نصاب الثلثين وحده.
2 ـ وجود أكثر من رأي في صفوف قوى 14 آذار حيال إجراء الاستحقاق، وخصوصاً حيال النصاب القانوني لجلسة الانتخاب. ولئن قال الجميّل قبل أيام بالإجماع، فإن أفرقاء في 14 آذار يلاحظون أن موقف حرب، قبل أكثر من شهر عند إعلانه أنه لن يخوض الاستحقاق بنصاب النصف زائداً واحداً، أتاح لأكثر من طرف في فريق الغالبية أن يحذو حذوه، ويهدّد سيطرة الغالبية على هذا النصاب ويفقدها ورقة مهمة للمناورة بها. والواضح أن كلاً من حرب وبعض حلفائه المتحفظين عن موقفه قارب الاستحقاق الرئاسي على نحو مختلف، وبحسب نائب البترون فإن انتخاباً خارج نصاب الإجماع ـــــ لا الثلثين فحسب ـــــ يجعل مهمة الرئيس الجديد صعبة، وقد يحول دون قدرته على أن يحكم، وفي أبسط الأحوال على رفع الاعتصام من وسط بيروت. فيما يرى الآخرون في انتخاب الرئيس الجديد المعركة السياسية الحاسمة التي تخوضها قوى 14 آذار لإحكام سيطرتها على كل مفاصل السلطة وفرض أمر واقع على الفريق الآخر.
ويدخل هذا الموقف في صلب رغبة قوى 14 آذار، قبل أشهر، في خوض الاستحقاق بمرشح واحد قبل أن يقرّ الرأي على فتح باب الترشيحات بين مَن يشاء من أعضائها الموارنة تسهيلاً للتفاهم مع المعارضة على مرشح توافقي يكون أحد تلك الأسماء، وتفادياً لحصر الترشّح بواحد يقفل أبواب الخيارات في وجه الطرف الآخر ويحمله على رفض التسوية، مثل حصر المعارضة مرشحيها بواحد هو الرئيس ميشال عون.
3 ـ سواء عُدّ السجال حول نصاب جلسة انتخاب الرئيس مشكلة دستورية أو سياسية، فإن نتائجها السياسية تمسي أكثر تعقيداً لإعادة بناء المرحلة التالية. ولا يبدو حرب بعيداً عن حلفائه المتحفظين في موقفه من النصاب الذي تلحظه المادة 49 من الدستور، بل هو يلاقيهم في القول بإمكان إجراء الاستحقاق بنصاب النصف زائداً واحداً إذا كان المقصود عدّ أصوات الفوز. ويلاحظ أن الغموض الذي يكتنف نصاب انعقاد جلسة الانتخاب قد فتح باب الاجتهاد والعرف على نحو جدّي، وللمرة الأولى، عندما ضغطت دمشق لعقد جلسة 18 آب 1988 لانتخاب الرئيس سليمان فرنجيه بنصاب النصف زائداً واحداً لتعذّر إمساكها بالثلثين. مذذاك كانت سابقة الجدل الدستوري في نصاب انعقاد الجلسة انتخاب الرئيس الجديد استكمالاً لما كان قد أثير في استحقاقي 1976 و1982 حيال طريقة احتساب نصاب الانعقاد: أعلى أساس عدد المقاعد أم عدد النواب الأحياء؟
ويعبّر تجاذب الجدل الدستوري حيال ما أثير في الاستحقاقات الرئاسية الثلاثة المتعاقبة عن لبّ مشكلة سياسية قبل أن تكون دستورية، وهي تأمين أوسع إجماع ممكن على انتخاب الرئيس الجديد. وبسبب استحالة الاتفاق عليه عام 1988 ذهبت البلاد إلى فوضى. وبسبب هذا الاستنتاج يعتقد حرب أن استحقاق 2007 أمام خيارين لا ثالث لهما: التوافق عليه أو الفوضى. لا يسقط احتمال أن يذهب حلفاؤه إلى انتخاب بنصاب النصف زائداً واحداً، ولا يستثني نفسه من المشاركة في الاقتراع لسواه إذا أصرّت قوى 14 آذار على انتخاب رئيس من صفوفها بهذا النصاب. إلا أنه لن يكون حينذاك مرشحاً، ويخشى ألا يكون في وسع الرئيس المنتخب أن يحكم.
4 ـ لا تحظى المعادلة التي أرساها بعض أفرقاء 14 آذار، القائلة برئيس وفاقي رداً على الرئيس التوافقي، بتأييد عام في ما بينهم، لأسباب تعزى إلى ربط المرشح الوفاقي بالبرنامج السياسي، والعودة تالياً إلى كل بنود الخلاف العالقة بين قوى 14 آذار والمعارضة في كل الملفات الساخنة. الأمر الذي يحمل حرب على الاعتقاد بأن المناداة بمرشح وفاقي كالمناداة بمرشح توافقي بمواصفات مستحيلة، أشبه بدعوة إلى عدم إجراء الانتخابات الرئاسية. وهو لا يقصر هذا المأخذ على حلفائه في قوى 14 آذار، بل يحمّل المعارضة المسؤولية الناجمة عن دفع الغالبية إلى التفرّد بالاستحقاق وفق نصاب النصف زائداً واحداً إذا تمسّكت بشروطها لمواصفات الرئيس التوافقي من جهة، أو ربطت عدم الاتفاق على هذا الرئيس بمقاطعة جلسة الانتخاب. عندها لن يكون في وسع الفريق الآخر إلا المغامرة بخيار انتخاب رئيس من صفوفه.