جان عزيز
لم يكن تأجيل النداء الثامن لمجلس المطارنة الموارنة، نتيجة لمصادفة سفر البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير الى الفاتيكان، لا بل الأدق والأصح أن موعد الرحلة الى روما حُدّد مسبّقاً في هذا التاريخ بالذات، بحيث يجري تأجيل «بيان أيلول»، إلى ما بعد العودة، وذلك لأسباب أساسية وجوهرية، لا بل مصيرية. هذا ما تؤكده أوساط الصرح وتشرح خلفياته ومسبّباته كالآتي:
أولاً لناحية التوقيت، كان واضحاً منذ أسابيع عدة بالنسبة إلى صاحب الغبطة، أن الاستحقاق الرئاسي الذي تحوّل أزمة دقيقة وخطيرة، ستتم مقاربته من الجهات المعنية إقليمياً ودولياً، في اللحظات الأخيرة، وفي الربع الأخير من آخر ساعات الولاية، إن لم يكن في الوقت الضائع، وذلك بعد أن تكون قد استنفدت القوى وبدا الإنهاك والإعياء على جميع المتصارعين، وخصوصاً أن تجارب البطريرك في هذا المجال، علّمته هذا الدرس، بحيث إن من يلعب ورقته باكراً، يخسر غالباً. لذلك، كان هناك قرار غير معلن في بكركي، حتى قبل الذهاب الى الديمان، مفاده أن إعلان الموقف البطريركي من الاستحقاق في 5 أيلول، وهو الموعد المصادف لانعقاد الاجتماع الشهري في هذا الشهر لمجلس المطارنة الموارنة، سيكون توقيتاً خاطئاً، وستأتي تطورات عدة لاحقة لتتخطّاه وتحرقه وتفرض صدور «ملاحق» له، لن تكون مفيدة لهذا الموقف ولفاعليته المرجوّة.
ثانياً لناحية المضمون، وهو الأهم، تشير أوساط الصرح إلى أن ثمة قاعدة بطريركية ثابتة تقول، بأن اللحظات المصيرية، ذات الانعكاس الوجودي على المسيحيين ولبنان، تقتضي تشاوراً مباشراً بين بكركي وروما. وفي موضوع الرئاسة اليوم، وما تمثّل حولها من استحقاق خطير، تقول القاعدة نفسها إن بكركي لا يمكن أن تبلور رأياً ولا أن تصدر موقفاً من دون التباحث مع الفاتيكان. كما أن الكرسي الرسولي لا يمكن أن يتحرك دولياً في مثل هذا الشأن، من دون التنسيق والتطابق الكاملين مع البطريرك الماروني.
بناءً عليه، جرى تحديد موعد سفر صاحب الغبطة إلى روما، في هذا التوقيت بالذات، بحيث يتم تأجيل «النداء الرئاسي»، وبحيث يأتي قبل أيام من بدء المهلة الدستورية الرئاسية، في 19 أيلول أو العشرين منه، وخصوصاً بحيث يمثّل موقفاً بطريركياً ــــ فاتيكانياً مشتركاً من القضية، يستند إلى تداول مسيحي داخلي، ويتطلع إلى تسويق أوروبي وغربي.
لكن ماذا سيقول البطريرك للدوائر المعنية في روما؟ الأوساط نفسها تنقل عن الصرح التصميم التفكيري الآتي، مرجحة أنه ما يجول في ذهن صاحب الغبطة:
من الطبيعي أولاً إعطاء كل الوقت، وكل الجهد اللازم، للحالة السياسية القائمة لبنانياًَ وإقليمياً ودولياً، لتنضج نهاية سعيدة للاستحقاق الرئاسي. وهنا تقوم بكركي بالدور المفترض بها تأديته، على أكمل وجه. وفي هذا الإطار يلتزم الصرح حدود «الاجتهاد الثابت» للبطريرك، في أنّ بكركي لا تدخل في اللعبة السياسية، ولا تتورط في تسمية مرشحين رئاسيين.
لكن البحث في روما، سيتخطّى هذه المرحلة المنطقية، ليصل في منهجية التفكير نفسه إلى الفرضية الآتية: وماذا إذا لم تنجح «الحالة السياسية» المذكورة في الوصول إلى الحل الرئاسي المنشود؟
الجواب الذي يحمله البطريرك واضح: عدم حصول الاستحقاق، سيحمل شراً مستطيراً، وسيؤدي الى بداية الانزلاق صوب حرب لبنانية جديدة. وتجنّباً لهذا المحظور، ترجّح الأوساط نفسها أن البطريرك سيحمل إلى روما اقتراحاً بالخروج عن «الاجتهاد الثابت»، وبالدخول في واجب أن تعلن بكركي «كلمتها»، على الأقل أمام التاريخ. وتشرح أن اجتهاداً ثابتاً آخر كان قائماً لدى الصرح، ويقول بعدم تعديل الدستور، خرج عليه البطريرك قبل أسابيع، على قاعدة «الظرف الاستثنائي».
والقاعدة نفسها تصح منذ استحقاق تطيير الرئاسة، بحيث يكون على بكركي واجب الخروج مرة أخرى على اجتهادها، وإعلان موقف صريح من الأزمة.
وتعتقد أوساط الصرح أن البحث في الفاتيكان سيركّز على ضرورة الخلوص إلى جوابين نهائيين على السيناريوهين المحتملين وفقاً للتفكير المذكور: أولاً ماذا سيتضمن النداء الثامن أواخر أيلول، بما يساعد على وصول «الحالة السياسية» إلى حل رئاسي. وثانياً، في حال سقوط الاحتمال الأول، ماذا ستقول بكركي، ومتى، ولمن، حين يدخل لبنان زمن «الحالة الاستثنائية» عشية الفراغ. ولم تستبعد الأوساط نفسها أن تدخل مباحثات السيناريو الثاني في الأسماء، كما في آلية التحرك داخلياً وخارجياً لتجنب المحظور.
وفي هذا السياق سيحمل صفير إلى الفاتيكان تأييداً لمبادرة نبيه بري، كما سيحمل آراءً سمعها مباشرة من أصحابها، عن دعم مصري وسعودي لهذه المبادرة، وخصوصاً عن عدم تبني القاهرة أو الرياض أي مرشحين رئاسيين، على عكس ما يسوّق البعض لبنانياً. كما ترجّح الأوساط نفسها أن يطلب البطريرك من روما استدراج الدعم الأوروبي والغربي، لتجسيد «كلمة» في اللحظة الأخيرة، بعد انقضاء فترة «الحالة السياسية»، وسيطرة مقتضيات «الحالة الاستثنائية».
ما هي المعايير التي ستحدد مضمون «كلمة» الصرح إذن في اللحظة الأخيرة؟ تعتقد الأوساط نفسها أن المعيار الأول سيكون تجنيب لبنان الحرب، أو على الأقل تسجيل الموقف المبدئي لبكركي، بأنها لم تكن ملتزمة الصمت، عندما انزلقت البلاد إلى هذا المحظور. والمعيار الثاني أن تعلن «كلمة» قادرة على جمع المسيحيين، وتوحيدهم، لإنقاذ الاستحقاق وبالتالي إنقاذ الوطن.