عرفات حجازي
كما كان متوقعاً كسر رئيس مجلس النواب في خطابه بذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه حال المراوحة على خط الاستحقاق الرئاسي وطرح مبادرة «مصنوعة في لبنان»، من شأن التجاوب معها أن يمهد الطريق أمام حلول ومخارج للأزمة القائمة على مسافة أيام من بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئاسة الجمهورية إلا إذا بدأ قنص بعض المتهورين في فريق الأكثرية لإجهاضها قبل أن تأخذ سبيلها الى التحقيق.
وإذا كان الرئيس نبيه بري يراقب حالياً ويرصد ردود الفعل المحلية والإقليمية والعربية والدولية على أفكاره التوافقية قبل أن يحدد خطواته اللاحقة، فإن ما بلغه من تعليقات أولية على اقتراحاته أظهرت وجود استعدادات جدية للشروع بالتحاور حولها، لكن من غير التسليم بأوراق دستورية يمتلكها هذا الفريق قبل معرفة شخصية الرئيس والبرنامج السياسي الذي على أساسه سيجري التوافق، علماً بأن أحداً من أقطاب الفريق الأكثري لم يدل بمواقف قاطعة في شأن المبادرة، وإن كانت مصادر هؤلاء الأقطاب تحدثت بإيجابية عن مضمونها تاركة إعطاء الموقف النهائي بعد إخضاع الأفكار التي تضمنتها الى نقاش ودرس معمق لمعرفة ما إذا كانت ثمة خلفيات تحكم موقف الرئيس بري الذي ضيّق الخيارات والمواصفات من خلال تأكيده انتخاب رئيس توافقي صنع في لبنان في المواعيد الدستورية وبأكثرية الثلثين، وعما إذا كان هناك من فخاخ نصبها ليوقع الأكثرية في كمين العجز عن اختيار رئيس الجمهورية من خارج صفوفها، لأن تطبيق المعايير التي وضعها بري، وما قاله الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، يعني زوال حظوظ مرشحي البريستول ودخول لائحة مصغرة من المرشحين المحتملين الذين تنطبق عليهم صفة المرشح المقبول من جميع اللبنانيين والقادر على التعاون مع جميع الطوائف وعلى مسافة واحدة من جميع القوى السياسية.
وتعترف أوساط سياسية متابعة أنه، على رغم النزعة التوافقية والتفاؤلية التي ما فتئ الرئيس بري يبشر بها ويدعو إليها، فإن جملة متاعب وعوائق ستعترض مهمته الصعبة في ضوء وقائع وتطورات وظروف تسهم مجتمعة في فرملة اندفاعه والحد من زخم تحركه الذي تتقاطع عند لافتة التوافق التي يرفعها جميع المبادرات والوساطات التي تعمل على خط معالجة الأزمة، ويرى هؤلاء أن استمرار الخلاف السعودي ــ السوري الذي ارتفعت وتيرة تأزمه في لحظة احتدام الصراع السياسي وبلوغه مشارف الاستحقاق الرئاسي قد يطوي الحراك العربي ويسقط ما كان موجوداً من احتمال تجدد السعي العربي عبر الجامعة العربية وأمينها العام للتوسط في الخلافات اللبنانية. من هنا جاءت مناشدة بري للرئيس حسني مبارك كي يقوم بخطوات سريعة لإعادة التماسك العربي وتصحيح العلاقات السعودية ـــ السورية والعربية ـــ العربية والعربية ـــ الإيرانية لأن لبنان أكثر المتأثرين بهذه الخلافات، إضافة الى ان خيار التوافق على المستوى اللبناني ليس سهلاً ولا مضموناً. فداخل قوى 14 آذار حسابات مختلفة ومصالح متمايزة، عدا عن أن العملية التوافقية ليست محصورة فقط في شخص الرئيس، بل تتجاوزه لتشمل الأسس والقواعد التي تحكم الاستحقاق بأن يجري على قاعدة التوافق وبنصاب الثلثين والحكومة التي ستلي انتخاب الرئيس، رئيساً وتركيبةً وبرنامجاً وزارياً يتضمن المنطلقات السياسية للمرحلة المقبلة.
على أن مبادرة بري لحل أزمة رئاسة الجمهورية لا يمكن فصلها عن حركة الاتصالات التي تجري على خطوط إقليمية ودولية وعربية، فالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى سارع الى الاتصال برئيس مجلس النواب ليقف منه على مضمون مبادرته، مؤكداً له أن الجامعة تنظر بإيجابية الى مبادرته، آملاً أن يتم التوصل الى توافق بين الفرقاء اللبنانيين لإنجاز الاستحقاق الدستوري في موعده بشكل هادئ وسلس. كما أن الموقف الفرنسي ليس بعيداً عن طروحات بري، فهو يتلاقى معها ويعطيها دفعاً وزخماً سيجري التعبير عنهما من خلال رسالة تأييد وتشجيع من الخارجية الفرنسية نقلها امس القائم بالأعمال الفرنسي الى بري، ويؤكد مصدر ديبلوماسي رفيع أن مبادرة بري ستشجع بدورها الفرنسيين على استكمال تحركهم الذي يحظى بدعم أوروبي وإيراني وعربي بما فيه سوريا.
لكن ثمة علامة استفهام حول حقيقة الموقف الأميركي من المبادرة، والذي لم يخرج بعد، وفق أحد المتصلين بالسفير الأميركي جيفري فيلتمان، عن سياق التقدير لموقف رئيس المجلس ودوره وتحركه الوفاقي، ما يعني أن الجانب الأميركي ليست لديه إجابات محددة وتوجهات قاطعة حتى الآن بشأن الاستحقاق الرئاسي، الأمر الذي أحدث كل هذا الإرباك في مواقف الأكثرية التي راوحت بين الترحيب والتريث والانتقاد، بانتظار أن يعطي الأميركي كلمته بالنسبة إلى مسار التسوية التي ربما يرغب في ضبط توقيتها على ساعته في العراق، حيث لم تبدأ بعد عروض البيع والشراء وموسم المقايضات حول أزمات المنطقة.
وإذا كانت واشنطن تحاذر كشف أوراقها وتتجنب الدخول في تفاصيل الاستحقاق الرئاسي وآليات إجرائه، فإنها تكتفي في الوقت الحاضر بالتشديد على وجوب إنجازه في موعده الدستوري واستمرار التشاور والشراكة مع الفرنسيين في شأن لبنان والرئاسة الأولى، وهذا ما يبحثه الموفد الفرنسي جان كلود كوسران مع مسؤولي الخارجية الأميركية، وسيتابعه في عواصم عربية وإقليمية معنية بالشأن اللبناني تحضيراً لزيارة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لبيروت في نهاية الأسبوع المقبل.
وبانتظار أن تستكمل ردود الفعل على الحل التوافقي الذي طرحه بري، فإن الثابت حتى الآن أن طرفي الصراع السياسي في الموالاة والمعارضة يحاذران الإقدام على خطوات ناقصة «تكسر الجرة» مع الطرف الآخر وإن كان كل منهما يحتفظ لنفسه بالخيارات التي أعدها لربع الساعة الأخير، إذا لم يجر تلقّف الفرصة المتاحة للإنقاذ والخروج من المأزق المدمر.