كامل جابر
لبنان قطعة من السماء على الأرض... هذا ما تقوله أغنية وديع الصافي الشهيرة. كثير من اللبنانيين ما عادوا يصدّقون هذه العبارة بسبب الاعتداءات الكثيرة على البيئة من دون حسيب. رغم ذلك، لا يزال لبنان يفاجئك بطبيعته، ومنها محيط «جسر الدلافة»... لكن، كالعادة، لا يخلو الأمر من مشاكل

يخال الموغل بين ضفتي نهر الليطاني، شمالي "جسر الدلافة"، وبين بلدتي الدلافة (حاصبيا) وقليا (البقاع الغربي) أنه دخل مغارة ضخمة مفتوحة السقف، مكوّنة بدورها من مغاور وأنفاق وفتحات ومتدليات وجداريات، ومن ترسّبات كلسية ومائية وطينية وصخرية، وأشكال من الصواعد والهوابط وممرات بتنوعها البيولوجي المختلف، اكتسبتها المنطقة من آلاف السنين، حينما كانت تغرق بمياه الليطاني والينابيع المجاورة.
التفت سكان الجوار، من الدلافة وقليا وزلايا ويحمر ومرجعيون والنبطية، بعد تحرير الجنوب في العام 2000 إلى أهمية هذه المنطقة السياحية الطبيعية البكر التي لم تمتد إليها الأيادي العابثة. فأقيمت ثلاثة منتزهات متواضعة في المكان، تقدّم السمك النهري الطازج، بعدما جهز أصحابها حكمت عبدالله وجميل سلام وحسن عبدالله أحواضاً لتربية أسماك الترويت والكارب والسلمون وصارت المنطقة تستقطب الروّاد الذين كانوا يتزايدون عاماً بعدعام.
لكن صيف العام 2006 كان مختلفاً وأرخى بظلاله على الصيف الحالي... لذلك كان ممكناً لحكمت عبد الله أن يجد الوقت الكافي لينفث دخان نرجيلته ويحدثنا عن الوضع في المنطقةسابقاً لم يكن ذلك ممكناً بسبب ازدحام الروّاد "الذين كانوا يأتون بالمئات خلال الصيف، ويزدحم بهم المكان أيام الجمعة والآحاد. لقد تسبب العدوان بتراجع الإقبال على السياحة البيئية وارتياد الأنهر ومنابع المياه، ربما لأن الأوضاع الاقتصادية غير مستقرة، أو ربما لأن كثيرين من أبناء الجنوب فقدوا منازلهم ويتلهون في هذه الأيام في إعادة بنائها وإعمارها! أو ربما من بعض مفاعيل العدوان على مختلف الشؤون الحياتية والاجتماعية، وما تمرّ به البلاد من أوضاع سياسية وأمنية غير مستقرة، مرت أيام قبل الحرب لا يتسع فيها المكان لأحد هنا، اليوم تراجعت النسبة أكثر من 40 بالمئة".
كما تسبب العدوان الاسرائيلي "بقتل الموسم خصوصاً بعد تعرّض الجوار لغارات من الطيران الحربي الذي دمر جسر الدلافة، وتسبب بخسارة ونفق نحو 25 طناً من السمك النهري (ترويت) الذي كنا نربيه في أحواض خاصة، في مياه جارية قرب مجرى النهر" يقول عبداللهيكاد نفق الأسماك يكون الخسارة الأكبر للمستثمرين في المكان، لأنها تشكل رأسمالهم تقريباً، لذلك يشكو عبدالله من عدم تقاضيه أي تعويض عن خسارته حتى اليوم "ما زلنا في انتظار رئيس الحكومة فؤاد السنيورة حتى يفكّ القيد عن التعويضات المقررة، فإلى خسارتي، فقد أخي نحو عشرة أطنان من السمك المربى في مياه الليطاني، وجميل سلام أكثر من خمسة أطنان مماثلة".
بعد فقدان مخزون أحواض السمك الذي كان يفوق 25 طناً، بات عبدالله يشتري فقط ما يحتاجه أسبوعياً أو لمدة شهر فقط "أشتري أسبوعياً نحو 500 كيلوغراماً، أحضرها من العاصمة بيروت بسيارة مجهزة بمياه وأوكسيجين لكي يبقى السمك حياً، ومن ثم أضعها في المسامك (الأحواض) حتى تتغذّى وتنمو ومن ثم نصطادها طازجة للزبائن". ويشرح عبد الله أن حرارة المياه في النهر تصل إلى نحو 17 درجة "والسمك يحتاج إلى حرارة ما بين 15 و18، يعني أنه هنا يقيم في الحرارة الوسط التي تساعده على أن يكبر، ويصل وزن بعض أسماك الكارب إلى 45 كيلوغراماً والترويت والسلمون إلى نحو 13 كيلوغراماً".
أما ما يستفيض عبد الله في شرحه فهو أهمية المنطقة بتنوعها الطبيعي والبيئي والبيولوجي وكثرة منابع المياه فيها والطيور المختلفة، لا سيما البط "هذه المنطقة كانت منذ آلاف السنين، أو ربما من ملايين السنين، غارقة بالمياه، ما جعل صخورها تميل إلى الزرقة وتشبه لوحات من نحت الانسان. وتشير المغاور والنفق الذي يبدأ هنا وينتهي في ميدون إلى أن المنطقة كانت مأهولة قديماً".
ويشير أحد أبناء بلدة قليا عادل ناصر إلى أن الدلافة قرية صغيرة متواضعة و"ما يعزّز بعض حيويتها، هو الجسر الذي يفتح أبوابها على منطقة جزين ويشرّعها على مناطق أخرى كالنبطية وجبل الريحان وإقليم التفاح، فضلاً عن جسر عبور في الاتجاهين، بين حاصبيا والبقاع وجزين. هذا الأمر يعزّز كذلك دور منتزهاتها ومنتزهات الجوار".
لكن هذا الجسر تدمر في العدوان الاسرائيلي الأخير: "وربما لم تأخذ الدولة قراراً جدياً بإعادة بناء هذا الجسر، إذ أن الطريق منه وإليه تحتاج إلى استملاكات بسبب عبورها، من الجهتين، في أملاك خاصة لم يعد من بنى الجسر إلى رأي اصحابها فأنشأ الطريق من الجهتين للضرورة الأمنية التي استدعت بناءه".
ويذكّر ناصر بوعد تلقاه أبناء المنطقة من النائب أنور الخليل بإعادة بناء الجسر وإثارته هذا الأمر في إحدى جلسات مناقشة المجلس النيابي "وكذلك وعدنا النائب ناصر نصرالله ببدء أعمال البناء والتأهيل في القريب العاجل، بعدما أوكل أمره إلى متعهد. وكان أحد المتعهدين السابقين قد وصل إلى قليا، جارة الدلافة، وبدأ بتجهيز بعض بيوت السكن للمهندسين والعمال الذين سيعملون على بناء الجسر البديل، وغادر بعدما أبلغ المعنيين من الأهالي أنه غير مضطر لأن يبني الجسر من جيبه الخاص".
ويؤكد أن البلديات المعنية في الجوار، خصوصاً بلدية قليا "هي التي تقوم بشق الطرقات إلى مجرى النهر، ولم تسمح للأهالي باستباحة المجرى أو البناء العشوائي للاستراحات على ضفتيه، كذلك منعت الصيد النهري وصيد الطيور". ويلفت إلى أن "أي مشروع سياحي هنا في المنطقة، يحتاج إلى تمويل كبير يراعي في الأولوية طبيعة المنطقة وبيئتها وصخورها، وإلى تأهيلها من مختلف النواحي. فأصحاب المتنزهات الثلاثة مدّوا على نفقتهم أسلاكاً كهربائية من مسافات بعيدة، من قراهم، وكل واحد منهم وضع مولداً كهربائياً يستخدمه في الإنارة والتبريد".

أما المغاور والكهوف الطبيعية، على اختلافها، فلا يمكن وصفها إلا بالساحرة... هنا تجد كهوفاً مجاورة للنهر تماماً وتغمر المياه أرضها، وهناك مغاور متسعة ورطبة تنبت في أرضها مجموعة من الأعشاب وتقطنها زواحف وحشرات مختلف... وبين هذه وتلك، مغاور من طبقات تصل بارتفاعها إلى الجبال الصخرية التي تفوق الثلاثين متراً أو حتى أربعين ويشعر الناظر إليها كأنه في واد سحيق.
وفيما يقف المتجول مشدوهاً بعظمة ما يقابله أو يعلوه، يصرخ أحد الأطفال مشيراً إلى "كرسي الملك"، وهي صخرة على ارتفاع عشرين متراً، تشبه كرسياً منحوتاً في الصخر الصلد.




جسر الدلافة

يشكل جسر الدلافة شرياناً حيوياً يصل بين منطقتي حاصبيا وجزين ومنطقتي النبطية ومرجعيون. هذا لم يكن الجسر قائماً قبل العام 1978، تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الأول الذي قطع الطريق بين مناطق العرقوب والنبطية. بعد الاحتلال المباشر لجديدة مرجعيون أمر رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" آنذاك، ياسر عرفات، ببناء جسر للعبور بديلاً عن جديدة مرجعيون ومحيطها فبُني الجسر عام 1980، بين الدلافة، آخر قرى حاصبيا لجهة جزين، والسريرة آخر قرى جزين لجهة حاصبيا.
وفّر هذا الجسر على أبناء منطقتي حاصبيا والعرقوب، وصولاً إلى إبل السقي في قضاء مرجعيون (التي كانت خارج الاحتلال)، معاناة انتقال طويلة. فبدل أن يقطعوا نحو ثلاثين كيلومتراً نحو النبطية ومثلها نحو صيدا، باتوا على مسافة تناهز العشرة كيلومترات بعيداً عن مدينة جزين ونحو عشرين كيلومتراً عن مدينة صيدا.
تعرّض الجسر للقصف الأول في اجتياح عام 1982، فرُمّم محلياً إذ لم تدمره الغارة كلياً. وبعد التحرير في عام 2000 ركّب الجيش اللبناني جسراً حديدياً بدل القديم الذي انهار بسبب سيول الأمطار، وتدفّق نهر الليطاني بغزارة. ثم دُمّر كلياً في عدوان حرب تموز (20/07/2006)، لتنفصل منطقة حاصبيا والجزء الجنوبي من البقاع الغربي عن منطقة جزين وقرى البقاع الشرقي.
النائب قاسم هاشم تمنى على الحكومة اللبنانية "العمل على إعادة بناء جسر الدلافة الذي هدمه القصف الإسرائيلي نظراً لأهميته الحيوية في ربط قضاءي حاصبيا وجزين". وقال: "إن جسر الدلافة ما زال شاهداً على الحرمان والاهمال وهو الذي تهدّم في القصف الإسرائيلي، وعلى الرغم من كل المراجعات للمعنيين، لم نرَ أي اهتمام، وبقيت الوعود وعوداً".