نقولا ناصيف
في موازاة جهود دبلوماسية إقليمية ودولية متلاحقة معنية مباشرة بانتخابات الرئاسة اللبنانية، برز خلالها الفاتيكان أمس مسرحاً لحوار اشترك فيه الفرنسيون والسعوديون والسوريون، واللبنانيون كذلك ــــ ارتسمت نهائياً ـــــ أو تكاد ـــــ خريطة الشركاء الفعليين للبنانيين في الاستحقاق الرئاسي، وهم الأميركيون والفرنسيون والسعوديون والسوريون والإيرانيون، وقد باتت ثمة كلمة فصل لهم في الاستحقاق، أو في أبسط الأحوال لم يعد في وسع أيّ من هؤلاء استثناء أحد الشركاء من مسار الاستحقاق. وهو ما تعبّر عنه سلسلة مواقف في حوزة جهات دبلوماسية أوروبية واسعة الاطلاع، تدرجها في ملاحظات تعبّر، بدورها، عن تناقض المعلومات المتعلقة بمقاربة كل من هؤلاء الشركاء لانتخابات الرئاسة اللبنانية:
أوّلها، ما يُنسب إلى مسؤول سوري رفيع ترجيحه صورة قاتمة للوضع اللبناني كلما اقتربنا من المهلة الدستورية وتصاعدت وتيرة التصلّب بين طرفي النزاع المحليين، وكذلك جمود الاتصالات الأميركية ـــــ السورية بعد اجتماعين تناولا موضوع العراق حصراً، من غير إحراز تقدّم في حوار ثنائي بين البلدين. وبحسب الحجة التي يسوقها، لا يتصور المسؤول السوري الرفيع انتخابات رئاسية لبنانية لا يمهّد لها اتصال أميركي ـــــ سوري في هذا الصدد.
ثانيها، خلافاً للحوار الأميركي ـــــ السوري، طرأ تطوّر ملحوظ في الاتصالات الأميركية ـــــ الإيرانية على نحو ما يذكره بعض المعلومات عن اجتماعات دورية تكاد تكون أسبوعية بين الطرفين تتناول الملف الأمني العراقي، وفي الوقت نفسه إمرار إشارات خاصة إلى ضرورة التوسّع في هذا الحوار ليشمل باقي الملفات الإقليمية الساخنة الوثيقة الصلة بالطرفين.
ثالثها، ما تناقلته معلومات دبلوماسية عما يردّده مسؤولون إيرانيون أمام محدثيهم، وأخصّهم الفرنسيون والسعوديون، حيال الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وهو أن على هؤلاء محاورة سوريا في أمره. وتعكس هذا التطور نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لدمشق في 19 تموز الفائت، واجتماعه بالرئيس بشار الأسد، واتفاقهما على توسيع هامش الدور السوري في لبنان في سياق قرار نفوذ طهران ودمشق في هذا البلد. وفي تلميح إلى تفويض إيراني قوي لسوريا، يستخدم المسؤولون الإيرانيون أمام محدثيهم المذكورين عبارة: «احكوا مع السوريين، هم أعلم بالملف اللبناني».
رابعها، الموقف الإيجابي، وإن المشروط، الذي أبلغته طهران إلى الموفد الفرنسي الخاص جان كلود كوسران من أنها تدعم انتخابات رئاسية لبنانية على قاعدة توافق لبناني ـــــ لبناني ضمن المهلة الدستورية، لكن مع مراعاة «مصالح حزب الله في المرحلة المقبلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً». وعزّز الإيرانيون موقفهم هذا، في الساعات الأخيرة، بتأييدهم مبادرة رئيس المجلس نبيه بري لمعاودة الحوار اللبناني على الاستحقاق الرئاسي.
خامسها، ما يصل إلى مسامع الدبلوماسيين الأوروبيين عن مواقف ضمنية لقوى 14 آذار والمعارضة على السواء تعبّر عن خشيتها من بلوغ البلاد فوضى لا يصبح في الإمكان الإمساك بها إذا أخفق الفريقان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وتبعاً لما أصغى إليه هؤلاء الدبلوماسيون فإن شخصيات بارزة في قوى 14 آذار، في مراجعة نقدية للوضع الراهن، تعتقد أن انتخاب رئيس جديد للجمهورية أياً تكن الكلفة السياسية للتوافق حوله مع المعارضة، يضع الاستحقاق للمرة الأولى بين أيدي اللبنانيين، ويخرج رئاسة الجمهورية من طور السيطرة السورية عليها. وهو مكسب ثمين في ذاته.
كذلك بلغ إلى الدبلوماسيين أنفسهم كلام منسوب إلى رئيس المجلس نُقِل إلى أركان في قوى 14 آذار أكد فيه رفضه دخول البلاد في فوضى، وأنه لا مكان له في ظلها ولا مصلحة له بها، وأنه عراب حل لا طليعة قتالية. وهي إشارة من بري إلى هذا الفريق بضرورة مقاربة الاستحقاق الرئاسي بجدية وتجنّب الشروط المتصلبة، والسعي إلى التوافق على رئيس جديد للجمهورية.
سادسها، اعتقاد الجهات الدبلوماسية الأوروبية بأنه لا مصلحة لأي فريق إقليمي أو دولي بزعزعة الاستقرار في لبنان. ويصحّ ذلك على الأميركيين مقدار انطباقه على السوريين، وخصوصاً أن لبنان لم يعد المكان المناسب لليّ ذراع سوريا، وقد خرج جيشها واستخباراتها العسكرية منه. كما لم يعد لبنان المكان المناسب لسوريا كي تمارس من خلاله ضغوطاً على المجتمع الدولي على غرار تجربتها وإياه في عقد الثمانينات من القرن الماضي.
ولعلّ الأبرز في الملاحظة التي توردها الجهات الدبلوماسية الواسعة الاطلاع أن اختلاف السياسة الأميركية في لبنان عن تلك التي رسمتها للمنطقة، تجعل واشنطن أكثر تمسكاً بالحؤول دون انهيار الاستقرار اللبناني. وقد يكون أحد مؤشرات هذا المنحى، أن ما رفضته الإدارة الأميركية في السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو تمثّل حركة «حماس» في الحكومة الفلسطينية، جعلها تسلّم به على مضض في لبنان من غير أن تجهر بذلك، وهو تمثّل حزب الله في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، واتهامها إياه بالسعي إلى زعزعة استقرار حكومة الأكثرية النيابية بخروجه منها.
في حمأة هذه المعطيات يقف طرفا النزاع اللبناني، قوى 14 آذار والمعارضة، في المقلب الآخر من لعبة سياسية أضحت أكثر تعقيداً، وأبعد ما تكون عن كونها استحقاقاً محض لبناني، في ظل تساؤل يختلف الفريقان في طريقة طرحه، هو: ماذا تريد دمشق من انتخابات الرئاسة اللبنانية؟ بل هل تريدها؟
في واقع الأمر تكمن المشكلة في حجم الدور الذي تريده دمشق في لبنان، لا في مبدأ حصولها على دور قد حصلت عليه سلفاً، وإن بحصة باتت منذ عام 2005 متناقصة عمّا كانت قد خبرته في هذا البلد لأكثر من عقد ونصف عقد من الزمن.