انطوان سعد
إن أحد أهم إنجازات البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، خلال حبريته المستمرة منذ عام 1986، هو تمكنه من إيجاد خط الوسط بين الرؤية التقليدية للقيادات المارونية، صاحبة التمثيل العريض، القائمة على تقديم مبدأ الدفاع عن الخصوصية المسيحية في لبنان وتعزيز مقومات حضورها على كل الاعتبارات الأخرى، وبين نظرة الفاتيكان التقليدية وخط البطريركية المارونية التقليدي اللذين كانا يقدمان اعتبارات العلاقات المسيحية ـــــ الإسلامية ونظريات العيش المشترك وتلاقي الأديان وحوار الحضارات وأوضاع الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، على ما عداها.
وغالباً ما تسبب الاختلاف حول الأولويات، بخلاف مكتوم وجد بعض الأحيان طريقه إلى العلن، عندما كان الرئيسان الراحلان كميل شمعون وبشير الجميل لا يتوانيان عن انتقاد سياسة الكرسي الرسولي ومواقف الحبر الأعظم بشيء من القسوة في بعض الأحيان. في المقابل، كان موفدو الكرسي الرسولي خلال فترة الحرب يقرّعون القادة المسيحيين ويتهمونهم بالراديكالية المفرطة التي تهدد الحضور المسيحي، لا في بلدان المنطقة فحسب، بل حتى أيضاً في لبنان. وقد قال البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لوزير خارجية لبنان سنة 1979 فؤاد بطرس، إن الفريق المسيحي اللبناني يمارس تدميراً ذاتياً ومزايدة على مواقف الكرسي الرسولي مضيفاً: «هلاّ قلت للقوات اللبنانية إن الفاتيكان هو أيضاً كاثوليكي».
ما نجح فيه البطريرك صفير هو التوفيق بين نظرتي الجانبين إلى القضية اللبنانية وأبعادها وسبل حلّها ورعاية خط فكري جديد وجد ترجمته في الوثائق المتعلقة بالسينودس من أجل لبنان، وبخاصة النداء الأخير، والتي أفضت إلى الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان». وقد تخطّت مساهماته الإطار اللبناني لتطال قضايا متعلقة بالشرق الأوسط على وجه العموم، حتى بات الكرسي الرسولي لا يقوم بأية خطوة متعلقة بهذه المنطقة من دون استشارته وأخذ رأيه، وخصوصاً بعد المحاضرة المهمة التي ألقاها في الرابع من آذار سنة 1991 في حضور البابا وعدد محدود من المسؤولين النافذين في الفاتيكان حول المتغيرات في الشرق الأوسط.
حذّر في تلك المحاضرة من سياسة الكيل بمكيالين من جانب الأسرة الدولية في تعاطيها مع النزاع العربي ـــــ الإسرائيلي وقضية تحرير الكويت من الغزو العراقي. ومما قاله يومذاك بما يشبه النبوءة: «يشعر المسلمون بأن قوات الغرب جاءت بعجرفتها من أجل أن تحرم الشعوب الإسلامية من ثرواتها، أكثر مما ترغب في تحرير الكويت. إذا كانت الأنظمة العربية قد نجحت في السيطرة على الوضع على مستوى الشارع، فإن ذلك لا يعني أن شعور الإذلال غير موجود في النفوس (...) حتى لو نجح الحلفاء على المستوى العسكري، فسيكونون خاسرين على المستوى الدبلوماسي لأنهم سيحصدون كره المسلمين أينما حلّوا». وفي هذا الإطار، ينقل رئيس حزب الكتائب كريم بقرادوني عن أحد سفراء إيطاليا لدى لبنان قوله: «إن خارجيتنا المطلعة على ما يجري داخل أسوار الفاتيكان، تعتقد أن أقوى كاردينال هناك، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، هو الكاردينال صفير».
انعكس تقدير الفاتيكان للبطريرك صفير في أوجه عدة، أبرزها تضييق هامش تحرك القاصد الرسولي في لبنان ابتداءً من المرحلة الأخيرة من الفترة التي أمضاها السفير بابلو بوانتي، فيما بقي السفيران أنطونيو ماريا فيليو ولويجي غاتي في الظل على رغم أن الأخير يتمتع بشخصية قوية وله علاقات مهمة مع السياسيين اللبنانيين منذ ما قبل مجيئه إلى لبنان. كذلك يصرّ الفاتيكان على كل من يفاتحه من اللبنانيين والأوروبيين والأميركيين بالمسألة اللبنانية، بوجوب المرور ببكركي، مؤكداً دعمه الكامل والتزامه بتوجه سيدها إلى أبعد الحدود.
إن قيام مبادرة فاتيكانية في موضوع الاستحقاق الرئاسي مع القوى السياسية اللبنانية، مرتبط فقط برغبة البطريرك صفير، وفق ما قالته دوائر الفاتيكان لجهات حكومية لبنانية ولأحد مستشاري النائب سعد الدين الحريري. لكن لا يزال الأمر مستبعداً ولن يلجأ سيد بكركي إليه إلا في حال الحاجة القصوى عندما يصبح لا مناص من اتخاذ خطوة عملية باتجاه حمل هذه القوى على التفاهم على رئيس توافقي للحؤول دون الفراغ الرئاسي. أما المبادرة الفاتيكانية التي يطلبها البطريرك الماروني بإلحاح، فهي باتجاه الجهات الدولية الفاعلة في لبنان لحثها على عدم تدفيعه ثمن خلافاتها وتنافسها. وفي هذا المجال، تؤكد المعلومات الآتية من روما أن الكرسي الرسولي الذي تربطه علاقات ودية مع كل الدول المعنية بالمسألة اللبنانية، يقوم بما عليه ويدفع بالاتجاه الذي يطلبه سيد بكركي لأنه يخشى نتائج سياسة المحاور على لبنان.