أنسي الحاج
في برنامج تلفزيوني فرنسي عن أنواع الإدمان، أطلّ رجل في العقد الخامس من عمره معترفاً بإدمانه المقامرة على ماكينات البوكر الكهربائية. ولما سئل عن الدافع وراء الاستمرار رغم الخسائر الدراماتيكية التي يمنى بها لأن لا حظ في برامج الكومبيوتر إلا في حيّز العشرين في المئة حدّاً أقصى للاعب والباقي للكازينو (هذا في حال عدم إقدام إدارة الكازينو على «لغم» الماكينات إلى حدود التشليح المعلن) أجاب: «أعرف سلفاً قلّة حظي. ليس المهمّ أن أربح بل أن أظل ألعب. التوقف عن اللعب هو أصعب لحظة أواجهها».
عادة المقامرة كتب عنها الصحافي الخلّاق سعيد فريحة في العديد من مقالات «جعبته». وكان أجرأ مَن كشف لقرّائه إدمانه هذا. وكان كل مرة يقسم على التوقف ثم يحنث بالقسم ويعود إلى المقامرة.
(والأهم من ذلك أن سعيد فريحة من أوائل الذين جعلوا الشأن الإنساني والشخصي مادة تعلو، في الصحافة السياسية، على الشأن السياسي. وهو في هذا أيضاً سبق صحافة اليوم بثلاثة أرباع القرن، ولا يزال يسبقها).
يعرف القرّاء قصة بلزاك «الجلد المسحور» وقصة دوستيوفسكي «المقامر» وقصة في الموضوع نفسه لستيفان زفايغ لم أعد أذكر عنوانها، حيث يتغلّب هوس القمار على كل منطق بل حتى على حمّى الحب، وحيث لا يقترن اللعب بشهوة المال، كما يتراءى لغير العارف، بل بعدم القدرة على التوقف عن الرهان.

قادني إلى هذه الملاحظات كتاب جديد عن «الأهواء والشهوات الأدبية» أو عند الأدباء وفي كتبهم، لمؤلفيه إليزابيث راللو ريتش، جاك فونتانيل وباتريزيا لومباردو. يذهب المرء إلى القمار بالدافع الذي يحمل المستوحش على الذهاب إلى الماخور أو الخمّارة: دافع الضجر. لكن في القمار التحدي أكبر من السكر أو المعاشرة، وكلاهما متاحان وبكلفة أقل كثيراً سواء على الصعيد المالي أو الاجتماعي. بالخمر يلعب الرجل مع صحّته، بالمجون مع صحّته واحتمال تورطه في علاقات غير حميدة، أما في القمار فالخطر شامل: مالي، اجتماعي، صحّي، ونفسي. قلّما أودت أوكار الدعارة أو الخمارات بالزبون الى الإفلاس التام، أما القمار فغالباً ما يفعل ذلك وأحياناً يقتل أو يؤدّي إلى الانتحار. هنا يدخل المدمن وطن الشيطان بلا حماية، وكلما خسر تجدد أمله بالتعويض.
صورة مطابقة تماماً لوضع الإنسان أمام طاولة الحياة الخضراء: لولا الأمل بمحالفة الحظ في اليوم التالي لذهب المرء ولم يعد.

يراقب اللاعب حظّه في الروليت أو البكارا أو البوكر كما يراقب سائق السرعة احتمالات فوزه أو انقلاب السيارة به. لا أحد من اللاعبين يراقب الآخر الا ليتعزّى بخسارته. الذي يفرح لربح سواه مَلاك وقع خطأً في كازينو. أو هاوي عذاب من الدرجة القصوى.
يقال إن اللاعب لأول مرة يربح، يسمّونه حظّ المبتدئ، والبعض يقول حظّ البريء أو المغفّل. لاحظتُ ذلك مراراً. هنا يتراءى الحظ في زيّ شيطان يستدرج الفريسة، يُسهّل لها الطعم فتعلق. المدمنون والمحترفون يتربصون بالمبتدئ حتى يراهنوا على رقمه، وما ان ينتبه المبتدئ إلى حظّه حتّى
يفارقه.
يلعب المقامر مع المستقبل. الخسارة تردّه على أعقابه إلى الماضي. ماضي الخاسر مرارة وتحفّز. لا بدّ من الانتقام، لا لاسترجاع المال بل لإعادة الاعتبار إلى النفس.
يقول الخاسر: «كان عليّ أن أتوقف لمّا ربحت»، لكنّه لا يعنيها. المدمن يلعب من أجل اللعب لا من أجل الفوز. للفوز وظيفة واحدة هي تأمين جولة ثانية من اللعب. وأخطر المبتكرات هي آلات الكومبيوتر للروليت والبوكر، حيث اللاعب يلعب وحده في جوّ انفراد مؤاتٍ تماماً للإمساك بزمام الإمعان حتى اللانهاية، لولا التوقيت الإجباري لإغلاق الكازينو في ساعة معيّنة. المبارزة مع الحظّ إطالة للعمر حتى لو قصّرته. تأجيل لكل الهموم الأخرى. هنا أمام هذه الشاشة الخلاّبة (الألوان مدروسة لهذا الغرض) يخرج اللاعب خروجاً تاماً من الزمن.

يرفض اللاعب منازلة خصم شكلي. يرفض اللعب المأمون. يريدها معركة يخفق لها قلبه حتى ينخلع. إنه يمتحن حظوته عند الآلهة، العاثر الحظّ سيزداد برهانه على كونه مظلوماً، والسعيد الحظّ ستغمره النشوة هنيهة قبل أن تعود الظلمة، في الجولة اللاحقة التي لا مفر منها، وتغمره. وحين يتأكد له نحسُه سيصاب بنوعٍ من الطمأنينة، فقد حصل على شهوده ضد القدَر.
يعرف صاحب المقمرة أن اللاعب يأتيه ليُصارع نفسه، ويقول إن المقامر يرغب ضمناً في الخسارة، لذلك يداوم على الارتياد رغم الهزائم. لكن ما لا يقوله صاحب المقمرة هو أنه لا يتردد أحياناً في «مساعدة» النحس على تشليح اللاعب، خاصة بواسطة آلات الكومبيوتر السهلة «التلغيم»، بل وحتى دولاب الروليت. فقد ضبطت كازينوهات، قبل أعوام، على الشاطئ اللازوردي الفرنسي يتلاعب اصحابها بالكرة عن بعد بقوة اللايزر.
إن من يرتاد المقمرة يأتيها تحمله سذاجة الاعتقاد بالحظّ، مهما نُبّه ضد الخزعبلات وضدّ خطر الإفلاس. التلاعب بالحظ جناية تضاهي التغرير بالقاصر.
لا أحد يجبر المقامر على المقامرة، يقول أصحاب الكازينوهات. كمن يقول لمن دهسته سيارة مخالفة: لا أحد أجبرك على مغادرة منزلك. حقّ المرء بمنازلة حظه كحقه بعدم منازلته، كلاهما طبيعي، ويجب أن يصان من الانتهاك ويعاقَب لصوصه. وما يحيط هذه الحكاية من صيت مريب يستغلّه مصّاصو دماء اللاعبين مراهنين على سكوتهم اتقاء للفضيحة. ليس الحظّ مَن يدّمر اللاعب بل قوانين اللعب المجحفة والآلات الملغومة. وشأن استغلال حق اللعب شأن كلّ استغلال، يجب أن يُزال.

الحظّ، في معناه الأصليّ، لعبة طفوليّة، هي ظلّت طفوليّة فيما كبر اللاعبون بها وفقدوا ضحكتهم اللاهية وأخذ التحدّي المأسوي محلّها. الحظّ معشوق وطالبه عاشق.
هما نفسهما المرأة والرجل. والأصحّ: الراغب والمرغوب. بل أيضاً: الصيّاد والطريدة. غير أن الطريدة هنا، وفي مطارح أخرى أيضاً، هي الصيّاد الحقيقي.
في التوراة يراهن الشيطانُ الله أنه قادر على تكفير أيّوب. في مسرحية غوته يكرر مفيستوفيليس الرهان ذاته مع الله حول «خادمه المؤمن المطيع» الدكتور فاوست. ومعروف «رهان باسكال» لإقناع المتشكّكين بأفضليّة الإيمان. هنا يستعيد الرهان جوهره الذهني البحت وتغيب اللعبة في صفاء التجريد ويَنربط المصير برَمْيَة نَرْد.
يعتقد اللاعب أن هناك ما هو أجمل من الحياة التي يعيش، وأن ماله وسيلة لطرق الأبواب الموصدة. وهْم آخر، بالتأكيد، ولا ينتهي. ثمّة من يموت فوق الطاولة الخضراء، السباق غير متكافئ. ثمة من يموت في سرير الوصال، الشبَه قريب، ولو أن اللذّة هنا يوازيها القهر هناك. وكلاهما بحث على حساب الذات، على حساب إيهام الذات بمتع وفوائد هي من صلْب المادة التي ينصهر فيها اليأس والبراءة معاً.
أكثر ما يُعلّق المقامر بالحظّ لامبالاته. إنه أنتِ أيتها الغادة التي لا تكفّ عن إشعال القلوب ببرودها اللعوب.لا نزال بين قضبان الملعب ذاته، تتعدّد أسماؤه وتتنوّع أشكاله والروح واحدة: ملعب تضليلِ الوقت.
الوقت الذي لم يكن موجوداً قبل أن يخترعه الإنسان.
اخترعه ليقيس أبديّته فبات مقياساً لاضمحلاله.
منذ ذلك الحين، منذ تفتُّح الوعي الزمنيّ الأول، والإنسان يهْرب.
وقد صَنَع أجمل ما صَنَعَ لا ليتخلّد بل لينسى أنه موجود.