strong>نقولا أبو رجيلي
  • دفنت حلمها بالتمريض لافتقار قريتها إلى مدرسة


  • يثير مشهد حنان وهي تقود الجرّار الزراعي وتفلح الأرض فضول كل من يراها ويكتشف أنها تمارس عملاً كان ولا زال حكراً على الرجال. كان يمكن اعتبار هذا المشهد عادياً لو لم نكتشف أيضاً أنّ هذه الشابة تقود شاحنة ودراجة نارية و"تقطع" الحطب... وتحنّ إلى المدرسة


    تحيط الكوفية الحمراء كتفي حنان رحال (18 عاماً) معظم الوقت. هي كوفية المزارعين في البقاع، وحنان مزارعة. لا تمارس هذا "العمل" صيفاً كما غالبية بنات جيلها، بل هو عملها الوحيد منذ أكثر من ثلاث سنوات. تساعد عائلتها في العمل الوحيد الذي يعيشون منه، تزرع، تحصد، تنقل المزروعات، تجري الحسابات وتدقق في الفواتير... وتقود جراراً زراعيا ًتحرث به الأرض بمهارة تامة لافتة أنظار جميع أهالي المنطقة إليها. حنان "فارمر وومن" (farmer woman) حقيقية في مهنة فرضت نفسها عليها فيما كانت تحلم لنفسها بعمل آخر حرمتها الظروف الاقتصادية السيئة من تحقيقه.
    عندما تركت حنان مقاعد الدراسة، كانت في الرابعة عشرة من عمرها. تجاوزت امتحان آخر السنة في الصف الثاني الأساسي بنجاح ولم تعد بعدها إلى المدرسة. السبب: عدم وجود صفوف أعلى في مدرسة قريتها، والثاني وهو الأهمّ عدم قدرة والدها عن دفع أقساط مدرسية في القرى المجاورة وتحمّل نفقات النقل.
    بعد عام على هذا الحادث المفصلي في حياتها، جلست حنان على كرسي الجرّار الزراعي الذي يملكه والدها وقامت بتشغيل المحرّك وفق ما كانت تعلّمته من مراقبتها لشقيقها الأكبر. وعند سماع أهلها هدير (التركتور) استغربوا الأمر... حاولت الفرار خوفاً من التأنيب لكنها فوجئت بموافقة وتشجيع والدها على الاستمرار بما تفعله، ولم تمض مدة طويلة حتى أصبحت من الماهرات بهذا المجال.
    إذا كانت حنان استطاعت قيادة "التراكتور"، فهي بالتأكيد قادرة على ما هو "أبسط" من ذلك من أعمال زراعية باتت تتقنها جميعها وتقوم بها على أكمل وجه: بدءاً من حراثةالأراضي، مروراً بزرع وجني المحاصيل الزراعية على أنواعها ثم نقلها إلى أسواق الخضار وصولاً إلى تحميل البذور والأسمدة والمواد الأولية الخاصة بالزراعة وإجراء جميع الحسابات في البيع والشراء واستلام الفواتير والتدقيق بها... حتى أنها تقوم باستعمال جميع المعدات الملحقة بالجرّار مثل سكة الفلاحة، آلة رش الأسمدة، قلاعة البطاطا وجرّ القاطرة (تريلا) ونقل العمال إلى الحقول وتوزيع الأعمال عليهم في غياب والدها... وهكذا أثبتت من خلال عملها بأنها مزارعة من الطراز الأول رغم صغر عمرها.
    لا تخجل حنان ابنة بلدة شهابية الفاعور (قضاء زحلة) من القيام بعمل كان حكراً على الرجل، وهي تفاخر بأنها من الفتيات القليلات اللواتي يقمن بعمل مماثل. وتعترف بأن هذه الفكرة كانت تراودها منذ كانت في العاشرة من عمرها "ليش المرا ما بتسوق تركتور وتشتغل متل الرجال".
    لكن حلم حنان الحقيقي كان العمل في مجال التعليم أو ممارسة التمريض. ورغم أنها حرمت منه بإخراجها من المدرسة إلا أنها لا تشعر بالحقد على والدها الذي "أقنعني بصعوبة أن أترك المدرسة بعد نجاحي بصف الثاني متوسط أساس". حجة الأب آنذاك كانت أن امكانياته المادية لا تسمح له بتحمل نفقات التعليم والنقل في القرى المجاورة لعدم وجود صفوف أعلى في مدرسة القرية. هي تتفهم قراره وتعينه بكل طيب خاطر في عمله لأن "المسؤولية لا يتحملها والدي فقط بل إهمال الدولة وعدم إنشاء مدرسة في قريتنا أسوة بباقي البلدات المجاورة" مؤكدة أن "هذا أحد الأسباب الرئيسية بالقضاء على مستقبلي العلمي".
    حين يصل الحديث إلى موضوع الدراسة، تجد أن معظم أفراد أسرة حنان نادمون، أو حزينون لأن الظروف حرمتها من إكمال دراستها.
    يتذكرميجر رحال عم حنان اليوم الذي رآها فيه قبل ثلاث سنوات جالسة قرب حائط منزله وهي تجهش بالبكاء. عندما سألها عن السبب شكت له أنها ترغب بمتابعة الدراسة ولكن والدها لا يرضى بذلك "أشفقت على هالبنت وترجيت ابوها يقبل بتعليمها بس ما قبل... الله يسامحوا". وتتدخل ابنة عمها منى (18 عاما) في الحديث بعد أن تبرز الشهادة التي نالتها في البكالوريا "اقتصاد واجتماع" بدرجة جيد "والله انو حنان كانت اذكى مني في المدرسة ولو تابعت دراستها لكان الآن بحوزتها شهادة مثل هذه ولكن حظها سيء". رغم ذلك تبدي منى إعجابها بشخصية قريبتها التي تتمتع بحسب رأيها بمميزات كثيرةأما الوالدة فهي واثقة من نجاح ابنتها وتفوقها في أي مجال قد تختاره لأن "ابنتي اخت الرجال" كما تعبر. وتشرح يسرى (45 عاما) علاقتها بابنتها التي تكاد تكون أختاً لها وصديقة "تحمل هموم العائلة كلها... إنني افتخر بها وبكل ما تقوم به من اعمال". مؤكدة أنها بدورها حاولت إقناع زوجها بتسجيل حنان في مدرسة بلدة برالياس ولكن ظروفه لم تسمح له بذلك "الله يحميها ويبعتلها ابن الحلال اللي بيعرف قيمتها".
    لكن هل يوافق ابن الحلال على الزواج من فتاة تقوم بأعمال الرجال مثلها؟ ألا تخاف حنان من تأثير عملها هذا على نظرة الشباب لها وحلمها بالزواج؟
    تبتسم حنان، بل تتباهى بما تقوم به وتؤكد أنه على الشريك المفترض لحياتها أن يتقبلها "بالعكس، يجب أن يتشجع ويتزوجني فأنا مميزة عن غيري وأجيد كل الاعمال المنزلية والزراعية".
    وفي إطار مباهاتها بقدراتها تتحدى سائقة الجرار الرجال لمباراتها في القيادة لتثبت قدرتها بالتفوق عليهم، لافتة إلى أن الخطوة المقبلة بالنسبة لها "قيادة شاحنة كبيرة" عندما تتوافر الظروف. خصوصاً أنها الآن تجيد قيادة السيارة وشاحنة الـ"بيك أب" وتحسن ركوب الدراجة النارية.
    لا تعمل حنان بالأجرة عند أحد، وينحصر عملها بمزروعات أهلها، وبسبب غلاء سعر المحروقات ولتأمين التدفئة شتاء عمدت إلى شراء حطب وتقطيعه بنفسها وتوضيبه تمهيداً لوقده أيام البرد القارص.
    هي لا تعير أهمية لمنتقديها بل إنها تفاخر بعملها وبمساعدة أهلها في تحمّل الأعباء المعيشية حيث تتعرّض الزراعة إلى نكسات وخسائر في الكثير من المواسم، وهي تشجع فتيات جيلها على العمل في جميع المجالات التي تتاح لهنّ من دون الالتفات إلى العادات والتقاليد القديمة. وتنصحهن بالضغط على ذويهم وإقناعهم بشتى الطرقللخروج عن هذه العادات التى تحرم الفتيات حق التعليم لبناء مستقبل أفضل تكون فيه المرأة بجانب الرجل وتتمتع بحقوقها كاملة.
    لم تنجح قساوة العمل الذي تقوم به حنان في إخفاء ملامح وجهها الجميلة، بل زادتها الشمس جمالاً... وأضافت هي إلى هذا "العمل" لمستها الأنثوية، حين وضعت ثمار البندورة المزروعة أمام المنزل في أطباق الضيافة أمام الحاضرين. إنها ثمار ما زرعته يداها، فكيف لا تكون أطيب فاكهة؟




    المتعلّمون بلا عمل!

    مع أن الأب، عادة، لا يميز بين أولاده فإن لحنان موقعاً خاصاً في قلب رب العائلة أحمد رحال (50 عاما). هو يأسف لعدم قدرته على تأمين مصاريف تعليم ابنته الأصغر بعد ثلات صبيان وابنتين، بسبب الأوضاع المادية الصعبة التي مرّ بها واضطرته للتقصير بحقها وحرمانها من متابعة تحصيلها العلمي. ويؤكد أن السبب المادي هو السبب الوحيد لموقفه وليس العادات والتقاليد القديمة التي تمنع الفتاة من الدراسة. رحال يعترف بأنه أخطأ لكنه يعلّل غلطته بأن "جميع الذين اكملوا تعليمهم عاطلون عن العمل ولا وظائف تؤمن مستقبلهم. أما العمل بالزراعة، فهو رغم بعض الخسائر "أفضل من الوظائف المفقودة والرواتب المتدنية". يقول رحال: "ان ما تقوم به ابنتي حنان من أعمال يساعدني على تحمل اعباء المعيشة الصعبة".