strong>آمال خليل
  • ساحـــة قدمـــوس اســـم جديـــد للمكـــان لا يمحـــو سيرتـــه

  • يعرفه الجميع باسم واحد هو «دوّار» البص، الدائر حول ذاته حتى الغثيان منذ كانت فلسطين جارة. هو عبارة عن بضعة كيلومترات تجمع شرائح مختلفة من المجتمع الجنوبي والفلسطيني. مساحة صغيرة تختصر سيرة مكان وأحلام كثيرين يتوقون إلى حياة أفضل


    ما لا يعرفه معظم «البصّاويين» أن دوّارهم أصبح بحسب بلدية صور ساحة قدموس منذ ستة أشهر، كما تفيد لافتة حديدية منتصبة في المكان لا يلتفت إليها أحد. هو «البصّ» بالنسبة إليهم، أي المساحة التي تمتدّ من مفترق بلدة معركة باتجاه صور جنوباً، إلى حيث يقف شرطي السير الذي لا يظهر من شدّة الازدحام ومخالفات السيارات حوله.
    يطالعك بمحالّه المكدّسة على جانبي الطريق المتهالكة. واجهات تلك المحال حزينة، يبدّل أصحابها حلّتها أكثر من مرة في السنة «لأنو ما مشيت المصلحة». محالّ تضم إلى البضاعة، هواجس اجتماعية تؤرّق علي الأمين (38 عاماً) الذي يقطع عشرات الكيلومترات من بلدته شقرا ليجرب حظّه في البص، وآمالاً لا تنتهي يحملها قاسم اسطنبولي (22 عاماً) الغارق يومياً في دوّامة البص في (كشك) الديسكوتيك الصغير، لكنه يترك قدماً فوق الأرض يذهب بها إلى كلية الفنون في الجامعة اللبنانية ليدرس اختصاص المسرح علّه «يؤدي دوراً مختلفاً أكثر نظافة يوماً ما لا يجبره عليه أحد» كما يقول.
    ببطء مع السير من الجهة اليمنى، معمل رخام تتعدى معروضاته على الطريق، ومحال أزهار وكاراج وحلويات وألبسة ومحطة وقود. في الجهة المقابلة، فرن مناقيش إلى جانب محل لبيع الأسمدة والمبيدات الزراعية وآخر للإنارة والأدوات الكهربائية، ثم محمصة ومقهى وفوّال وبسطة لبيع الكبيس وملحمة بجوار موقف الفانات. وصولاً إلى الدوّار حيث يقبض عشرات سائقي «السرفيس» على راكب أعزل يعرضون توصيله أنّى شاء حتى مشارف الخط الأزرق... لكنهم يركنون سياراتهم على بعد مئات الأمتار من المساحة المخصصة للاسترزاق لأن بلدية صور تمنع منعاً باتاً سائقي التاكسي والفانات والباصات العمومية من إنزال ركابهم أو إصعادهم عند الدوّار أمام المحال وإلا تعرضوا لدفع غرامة.
    والغرامة يحددها شرطي السير الواقف بين الشارعين: يراقب، حسب مزاجه الخاص المخالفات، فيكون حازماً أحياناً ومتغاضياً أحياناً أخرى عن توقّف الحافلات العمومية أمام المحال لتقل الركاب. إذا كان حظّ السائق جيداً تسامح الشرطي معه، أما إن لم يكن فيتكبّد غرامة قيمتها تفوق ما يجنيه طوال اليوم. أما في وسط البص، فتجد المستديرة التي استحدثت عندما وسّعت الدولة شارع البص في أوائل التسعينيات قاضمة نصف مساحة المحال على جانبيه؛ ثم زرعتها أخيراً بأشجار النخيل التي لا تبدو للمارّ بقربها من كثافة اللافتات والإعلانات.
    بعدها يتفرّع البص باتجاهين يمرّان بمحاذاة مخيم البص للاجئين الفلسطينيين: الأول تحدّه محال العصير والديسكوتيك والعطور والمطعم والخضر والفاكهة وبرّاد الأسماك ويقود باتجاه قرى الجنوب ويقابله موقف السيارات. أما الثاني فتحدّه محال السمانة والفرّوج والأحذية وتحويل الأموال والصيرفة وكاراج الميكانيك وتقابله ثانوية البنات الرسمية والملعب البلدي، ويقود باتجاه قلب صورأما جيران البص فهم، من الشرق: المدينة الصناعية المتوارية عن الأنظار خلف محال الحلوى والألبسة والأزهار والمقاهي القائمة بمعظمها على عمّال صغار لا يخضعون لقانون العمل أو لاتفاقية حقوق الطفل. إلى جوارها مشاعات المساكن التي خطّ مشروع بنائها في الستينيات لإنشاء مدينة نموذجية للمهجرين من القرى الحدودية (شيحين ومروحين والجبين ويارين والبستان ...). لكنهل تحوّلت لاحقاً إلى تجمّعات عشوائية لفقراء يجاورهم نهر السامر الملوث وتجمع مسالخ منطقة صور، وهؤلاء لا يتمتعون بحقوقهم (كهرباء وماء) لأنهم بحسب الدولة يتعدون على أملاكها العامة. أما من الجهة الغربية، إضافة إلى مخيم البص، فتجد البحر الذي يفتح أحضانه لمصبّات المجارير التي تأتي من كل حدب وصوب إليه، لأن محطة الضخ الأساسية للمياه المبتذلة لصور وجوارها ترقد تحت دوّار البص، فيما معظم البصّاويين لا يدرون.

    النكبة والثورة

    يروي أبو حسين المصري (70 عاماً) حكاية البص أو خط فلسطين، منذ «رآه» للمرة الأولى في عام 1948 بعد تهجيره وشعبه إليه، إلى أن امتلك فيه محلاً لبيع الأحذية منذ أكثر من 25 عاماً. يقول «كان البصّ واحة خضراء تحيط به بساتين الحمضيات من كلّ جانب ويمرّ فوق مستديرته جسر نهر السامر، وتقطعه محطتا أنطوان بشور وفؤاد خير الله للوقود ومطعم أبو صالح ونقطة للشرطة العسكرية اللبنانية وملعب رياضي صغير لفريقي التضامن والشعلة وموقف باصات زتنوت والصاوي وجودي وقصاب من صور». ويتذكر المصري أن الباصات كانت تأتي من بئر السلاسل وشقرا ورميش «وتنطلق يومياً من البص في الفجر لنقل الموظفين والعمال إلى بيروت وإعادتهم في المساء»، إضافة إلى 10 سيارات تاكسي يملكها أثرياء لأن «النمرة» كانت غالية الثمن مثل أجرتها اليومية (ليرتان ذهبيتان) و«لذا كان استخدامها مقتصراً على التجار الصوريين وكبار الصيادين الذين يرسلون بضاعتهم إلى مطاعم بيروت والمغتربين المسافرين عبر مطار بيروت». وللدواب والجمال محط أيضاً في البص، بعد رحلتها من بلدة معركة وجوارها لنقل الخضر إلى سوق صور. أما قطار سكة الحديد فلم يهدأ حتى عام 1950 وكان يمرّ بمحاذاة جلّ البحر ويخرق منطقتي البص والرشيدية وصولاً إلى الناقورة وبالعكس إلى سوريا حيث وزّع اللاجئون الفلسطينيون على أراضي الشتات. «لكن غياب حارس محطة البصّ أبو عدنان في 1965، سمح بسرقة كتل وقضيب الحديد والعربات، حتى لم يعد للسكة أي أثر سوى اسمها المعروفة به، واجهة البص البحرية».
    في عام 1958، كان الفلسطينيون الذين «تبعثروا» بعد النكبة، في مدينة صور وقراها وقرى قضاء بنت جبيل، قد تجمّعوا في مخيمي البص والرشيدية بعد تنحي الأرمن تدريجاً (أصحاب المنطقتين رسمياً واجتماعياً واقتصادياً منذ عام 1930). وفي البص، بوابة صور، «دارت رحى ثورة العام 58 بين آل الخليل حلفاء كميل شمعون والقوميين العرب بقيادة محمد الزيات، للسيطرة على المدينة عبره». ومع السنوات، بدأت البساتين بالتقهقر لمصلحة البناء، فارتفعت البناية الأولى (بحسون) حيث أفرد الطابق الأرضي منها مدرسةً للأونروا. وافتتح فيه الرئيس رشيد كرامي عام 1962 مستشفى صور الحكومي المجاور لمستشفى سعد الله الخليل.

    أبو صالح

    ارتبط البصّ طويلاً بمطعم أبو صالح الأول (معروف قهوجي) المقابل للدوّار منذ الثلاثينيات من القرن الفائت حيث كان معقلاً للتجار والزوّار الفلسطينيين حتى عام النكبة حين احتضنهم مشردين. إضافة إلى أنه كان ملتقى الرئيسين رياض الصلح وصائب سلام في طريقهما إلى مزرعتيهما في قضاء صور. وقبل وفاته بسنوات، عهد أبو صالح بمحاله المستحدثة السبعة إلى وريثه الوحيد ابن أخته محمود أشقودرة ثم أولاده الذين لم يغيّروا في فحوى بعض الأماكن مثلما غيّرت الدولة في بداية التسعينيات في معالمها بعدما وسّعت الشارع وقضمت منها 7 أمتار ونصف المتر، شقّت عليها طريق العودة.
    بعد أكثر من 30 عاماً على وفاته، لا يزال أبو صالح يعاين البص من شرفة منزله الأصفر الصغير، المسكن الوحيد القائم حول مستديرة البص، وكان يقيم فيه مع زوجته إلى أن استقرّ فيه علي ابن محمود أشقودرة. هذا البيت يبدو غريباً على المشهد العام، الغسيل المنشور، والضيوف، والسهرات تكسر حدة المكان وقسوته حيث يفرد هامشاً من غرفتين وشرفة لحياة إنسانية توجدها نجوى عسيلي وأولادها الأربعة حيث استقرّ لهم المنزل أخيراً.
    لا تستطيع نجوى، التي لا جيران لها، إلا أن تصف مسكنها بـ«المكعب الغارق في جحيم التلوث على اختلاف أنواعه، وخصوصاً الضجيج الذي لا يهدأ في الليل والنهار تماماً مثل قهوة أشقودرة (المطعم سابقاً)، التي يرتفع فوقها البيت. فالبص لا ينام ولا يرتاح، إذ يبدأ دورته باستضافة سائقي الشاحنات في آخر الليل ثم سائقي الفانات والتاكسي والعمال عند الفجر قبل أن تبدأ حركة الناس المعتادة في الصباح حتى المساء حينما يحين دور الشباب (الصالحين) الذين يتجمعون حول الدوار تحت رقابة الدرك وممثلي سائر الأجهزة الأمنية لحفظ السلم وفض الاشتباكات ونقل الوقائع».




    بقعة الخوف الدائم

    بين تفرعات دوار البص المزدحم، يحلو لفصيلة شرطة السير أن تقيم نقطة تفتيش مفاجئة بين الحين والآخر لضبط الآليات والسائقين المخالفين. إذ يجمع الدوّار «الشوفيرية» الذين لا يملك معظمهم رخصة سوق أو «نمرة» عمومية، وهو معقل للدرّاجات النارية التي يستخدمها معظم أصحاب المحال التجارية في عملهم اليومي، إضافة إلى محل كبير ووحيد في المنطقة لبيع الدراجات وتأجيرها.
    تجربة معتز سويدان تتكرّر يومياً في البص بين سائقي الدراجات النارية وسيارات «السرفيس» غير الشرعية. ودراجته هي عمود عمله الفقري في نقل السمك من ميناء الصيادين إلى مسامك البص، لكن حظّه العاثر أوقعه للمرة الخامسة في «كمين» الشرطة التي احتجزت درّاجته. معتزّ بات يحفظ الدرس جيداً: بناء على محضر ضبط يسحب الدرك الدراجة منه لأنها لا تستوفي الشروط القانونية وتنقل إلى مرأب «برجي» في العباسية (المتعاقد مع وزارة الداخلية) إلى حين يفك حجزها بجملة شروط يراها معتز وأمثاله تعجيزية: لديه مهلة سنة لاستردادها بشرط أن يسجلها في مصلحة تسجيل السيارات وامتلاك رخصة سوق دراجة صادرة عن وزارة الداخلية، ويجب أن تسجّل الدراجة باسم مؤسسة مسجلة بدورها في غرفة التجارة والصناعة. واللافت أن صاحب الدراجة يتكبّد دفع أجرة يومية لصاحب المرأب لأن الدولة ركنت دراجته لديه. فإذا استوفى الشروط القانونية المطلوبة أو «دبّر واسطة» قبل انقضاء السنة، يفك حجز الدراجة بدفع تكاليف تفوق قيمتها الحقيقية للمحكمة وصاحب المرأب. أما إذا لم يستطع، فعليه أن يشتري مجدداً دراجته في مزاد علني يقام على الآليات المحجوزة بأسعار، كما يقول، «يحددها الحظ أو الواسطة» اللذان لا يؤاتيان المعتّرين أمثاله يوماً.