جان عزيز
من أين انطلقت أجواء الحلحلة السائدة اليوم في البلد، حيال الاستحقاق الرئاسي؟ علماً أن أكثر من جهة مطّلعة على الاتصالات الحاصلة تؤكد أن لا شيء جديداً ولا جدياً، تحقّق في مشاورات روما، رغم كثافة المشاورات الجارية هناك، ورغم اتساعها لتشمل جميع الأطراف اللبنانيين، كما مختلف القوى الإقليمية المعنية بالأزمة اللبنانية، وبينها فرنسا وأميركا والسعودية. مصدر مطّلع على الدبلوماسية الرئاسية السرية، يؤكد أن الثغرة الأساسية التي خرج منها الضوء المتفائل الذي تحدّث عنه مروان حمادة قبل يومين، مصدرها سوريا. لا بل إنها انبثقت، لا من تحليل ولا من استنتاج، بل من رسالة واضحة وجازمة، أعطتها دمشق وعلى أعلى مستوى قيادتها، إلى المضطلعين بالملف اللبناني في الداخل والخارج.
ويجزم المصدر بأن الرسالة السورية جاءت محدّدة النقاط، وأبرزها الآتي:
1 ـــ أن دمشق، وبعد إجرائها تقويماً شاملاً للوضع العام في المنطقة وفي لبنان من ضمنها، ترى أن إجراء انتخابات رئاسية في بيروت أمر ضروري ومحتّم. وهي بالتالي تؤكد عدم نيتها ولا سعيها إلى إحداث فراغ دستوري لبناني، ولا إلى الرهان على فوضى لبنانية يمكنها الإفادة منها. لا بل ترى أن حصول الانتخابات، من ضمن موازين القوى القائمة، يؤمّن مصالحها.
2 ـــ أن دمشق مقتنعة بأن لا عودة لها إلى لبنان، وبالتالي فإن أهدافها وأغراضها في بيروت، لم تعد تحسب بمقاييس الموازين السياسية التي كانت قائمة يوم كان غازي كنعان أو رستم غزالة يتحكمان في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية. وهذا التغيير في الواقع وفي الفهم السوري له، ينسحب على كيفية تعاطي النظام السوري مع الوضع اللبناني، كما على طريقة تقويم الأشخاص والمواقف والمواقع.
3 ـــ أن دمشق، واستناداً إلى ما سبق، باتت تدرك أن «مصالحها اللبنانية» مقتصرة على ما تسميه «الأساسيات»، وهي تحدّدها اليوم في ثلاثة أمور: عدم استعمال الواقع اللبناني للتآمر على النظام السوري في الداخل. عدم تحويل لبنان أداة لإضعاف الموقف السوري في صراع المنطقة على مستوى الخارج. والتمسك بوضع لبناني يعطي لحزب الله الضمانات التي تراها قيادة الحزب لازمة وكافية له.
4 ــــ أن دمشق، وبالتدرّج المنطقي الذي تفرضه النقاط السابقة، باتت تعرف حجم إمكاناتها اللبنانية، وهي باتت مدركة لنظرية توفير الجهد وادّخار الطاقات. فهي تعرف حدود ما تقدر على طلبه، كما نطاق ما يمكنها أن ترفضه أو تمارس حق النقض حياله. ولذلك فهي عمدت إلى إجراء عملية مسح شامل للاحتمالات الرئاسية اللبنانية، وانتهت الى تصنيفها وتبويبها، بناءً على كل ما تقدّم.
وبنتيجة هذا المسح، خلصت دمشق الى أنها بين خيار الفراع أو الفوضى أو التدهور المفتوح على احتمالات ضربها أو تصعيد خصوماتها الإقليمية مع القاهرة أو الرياض، أو حتى إلحاق الأذى بتحالفاتها كما مع طهران، وبين وصول رئيس لبناني لا يخلُّ بالأساسيات التي حدّدتها، ويملك من حس «التسييس» ما يكفي لضمان عدم الإخلال المطلوب، في غياب أي ضمانات تقدمها موازين القوى السابقة، فكان أن حسمت دمشق قرارها بالسير في الخيار الأخير.
ويؤكّد المصدر نفسه أن هذه «الرسالة» السورية تمّ إبلاغها إلى الجهات الخارجية المعنية بالملف اللبناني، وأن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع نقلها إلى أكثر من طرف دولي، على هامش زيارته إلى روما الأسبوع الماضي. والأهم أن هذه الرسالة نُقلت عبر قنوات غير مباشرة، إلى كلّ من سعد الدين الحريري ووليد جنبلاط شخصياً. علماً أنها وصلت إليهما مرفقة بنوع من «الملحق» الخاص الذي يفيد، أن دمشق ليس لديها أي مشكلة مع رئيس لبناني جديد، يكون قادراً على «الحكي» معهما. لا بل إنها تعتبر ذلك نقطة إضافية إيجابية، قد تفتح الأفق المقبل على تطورات أكثر إيجابية.
ويربط المصدر المطّلع بين وصول هذه «الرسالة» إلى الداخل اللبناني المعني، وبين سلسلة المواقف المعتدلة الصادرة في الأيام الأخيرة. ومنها التحوّل الكبير في خطاب فؤاد السنيورة من مسألتي العلاقات مع سوريا و «انتصار المقاومين» في تموز 2006 وتزويجه له مع انتصار الجيش في نهر البارد، ومنها أيضاً اللهجتان الجديدتان لوليد جبنلاط، بين تلميحه إلى نيته تسجيل مجرد موقف مبدئي في وجه التسوية الآتية لا محال، وبين تراجعه أول من أمس عن سلاح النصف زائداً واحداً في مسألة النصاب الرئاسي.
أمّا صمت الحريري، فيعزوه المصدر نفسه إلى التريّث السعودي ــــ الأميركي في تقويم جدية «الرسالة» السورية وكيفية ترجمة مضامينها، والبحث في الآليات الموثوق بها لتحقيق ذلك. علماً أن هذا التريث مرتبط بمواعيد زمنية محدّدة، أولها الاتصال السوري ـــ السعودي المرتقب مباشرة بين وزيري خارجيتي البلدين، وثانيها حركة أميركية في اتجاه الملف اللبناني، قد تكون مفاجئة في إيجابيتها، وفق معلومات متداولة.
هل قُضي الأمر وباتت التسوية مسألة وقت؟ يتحفّظ المصدر المطّلع عن الذهاب إلى هذا الحدّ. فالمطبّات لا تزال كثيرة، وليس طرفاها إلّا اعتبار الرسالة السورية مؤشر ضعف وبالتالي رفضها، أو اعتبارها مناورة لتقطيع الوقت، وبالتالي الريبة منها. وبين هذين الطرفين تجثم أكمة من التفاصيل الشيطانية التي تنتظر المقاربة والمعالجة في ما بقي من وقت ضيق.