باريس ــ عمر نشابة
منذ انطلاق التحقيقات الجنائية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، حصلت تغييرات عديدة في أجهزة التحقيق وفي السلطات القضائية المشرفة عليه. فأُبدّل محققون بآخرين، كما تنقّلت الملفات بين جهة محلية وجهة دولية، وتبدّلت المكاتب وتغيّرت منهجية العمل. هذه التغييرات لا تخالف القانون المحلّي، لكنها تتجاوز القواعد المهنية في التحقيقات الجنائية، وتعرّض التحقيق لسلبيات عديدة. نستعرض في هذا النصّ بعض هذه السلبيات. لكن قبل ذلك لا بدّ أن نعدّد التغييرات الأساسية التي طرأت على آليات التحقيق في جريمة 14 شباط.
مرّت أسابيع قليلة على الجريمة، ولأسباب ما تزال مجهولة، قرّر القاضي ميشال أبو عرّاج التنحي عن مركزه كمحقق عدلي في جريمة اغتيال الحريري، فاستُبدل بالقاضي إلياس عيد، الذي تابع الإشراف على التحقيقات المحلية قرابة سنتين، حتى قرّرت محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي رالف رياشي وعضوية المستشارين القاضيين بركان سعد ومالك صعيبي أخيراً كفّ يده، وتعيين خلف له، بعدما رأت أن نقل الدعوى من قاضٍ إلى آخر هو «من المبادئ العامة في أصول المحاكمات المدنية والجزائية، ويطبّق على جميع المراحل القضائية». وذكر قرار المحكمة الذي صدر بالإجماع أن «نقل الدعوى من محقق عدلي إلى محقق عدلي آخر يبقى جائزاً ما دام تعيين المحقق العدلي البديل ممكناً».
لكن التغيير بين ثلاثة محققين عدليين في جريمة واحدة لم يكن الوحيد، بل حصلت تغييرات في جميع أجهزة التحقيق وإدارتها وجنسيات العاملين فيها ومنهجية عملها أيضاً.
فبعد انطلاق التحقيق اللبناني بأسابيع، أنشأت الأمم المتحدة «لجنة تقصي حقائق» برئاسة مفوّض الشرطة الإيرلندية بيتر فيتزجيرالد، وبعد اطّلاع تلك اللجنة على ملفات التحقيق اللبناني وعلى آلية التحقيق المحلية، أوصت بتحقيق دولي وشكّكت بصدقية الأجهزة الأمنية والقضائية المحلية وقدرتها على التحقيق. فأطلقت الأمم المتحدة لجنة التحقيق الدولية في الجريمة بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وعُيّن المدعي العام في برلين القاضي ديتليف ميلس رئيساً لها. ولم تتوضّح كيفية اختيار ميلس لهذا المنصب الذي يتطلّب شخصية حيادية ومهنية، لا شخصاً كان قد خالف المعايير القانونية خلال تحقيقات أشرف عليها سابقاً، كما هي حال ميلس في تحقيقات تفجير ملهى «لابيل» في برلين عام 1986. على أي حال، بعد تقديم اللجنة الدولية تقريرين إلى مجلس الأمن، تضمّنا في هذه القضية أيضاً تجاوزات عديدة للقواعد المهنية في التحقيقات الجنائية، انتقلت رئاسة اللجنة إلى القاضي البلجيكي في المحكمة الجنائية الدولية والأستاذ في جامعة لياج، سيرج براميرتس الذي شكّك في العديد من المعطيات التي كان ميلس قد ذكرها في تقريريه السابقين.
ومنذ صدور قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الحريري والجرائم الأخرى المتلازمة عن مجلس الأمن الدولي، تبحث لجنة خاصّة انبثقت عن الأمانة العامة للأمم المتحدة عن الشخص المناسب لتولي منصب المدعي العام الدولي، ويتسلّم بالتالي جميع ملفّات التحقيق اللبناني والدولي، بعد أن مرّت في عدد كبير من المكاتب، وبعد أن اطّلع عليها عشرات الأشخاص الذين لم تعد تربطهم اليوم أي علاقة بالتحقيق.
إن كلّ هذه التغييرات في التحقيق الدولي من جهة وفي التحقيق المحلي من جهة أخرى، كذلك التغييرات التي طرأت على المراجع القضائية المشرفة على التحقيقات، تؤثر سلباً على سلامته وبالتالي على صدقيته، وستصعّب عمل المدعي العام الدولي الذي قد يضطرّ إلى إعادة التحقيق في عدد من المعطيات.
نذكر أربعة تأثيرات سلبية للتغييرات في أجهزة التحقيق والمراجع القضائية المشرفة عليه:
أولاً: إن انتقال الملفات من محقّق إلى آخر، واطّلاع عدد كبير من أعضاء فريق التحقيق عليه، ومن ثمّ تغيير أعضاء فريق التحقيق واستبدالهم بآخرين، قد يعرّض التحقيق الذي يفترض أن يكون سرّياً إلى تسريبات. ومشكلة التسريبات لا تتعلّق بالصحافة التي تعمل على نقل كلّ ما يتوافر لها من معلومات إلى الناس، بقدر ما تتعلّق بتسريب متعمّد لمعلومات عن التحقيق من قبل المحققين أنفسهم إلى الصحافيين، ما يؤدي إلى نشرها ومن ثمّ وصولها إلى الجهات التي قامت بعملية الاغتيال أو المقرّبين منها، ما قد يفسح لها في المجال للإفلات عبرالتمويه أو عبر تسهيل تمرير معلومات كاذبة للمحقّقين. وقد تتيح التسريبات لمرتكبي الجريمة تخطيط تحرّكاتهم بناءً على تحديد الاتجاهات التي يتقدّم بها التحقيق. مثلاً سرّب ميلس نفسه إلى صحيفة الشرق الأوسط معلومات عن التحقيق، وقال إنه متأكّد من أن جهة معيّنة قامت باغتيال الحريري بناءً على أدلّة، ما وفّر معلومة لجهات أخرى يُحتمل ضلوعها في الجريمة.
ثانياً: إن تغيير المحققين والقضائيين خلال التحقيق، يوجِب على المحققين والقضائيين البديلين قراءة ودراسة جميع الملفات. هذا الأمر يستغرق أياماً عديدة، وقد يتجاوز أسابيع، لا بل شهوراً عدّة. ولا بدّ من التذكير في هذا الإطار أن المحقق العدلي الذي سيُستَبدل بالقاضي عيد سيحتاج إلى أكثر من شهر كامل لدراسة 120 ألف صفحة من محاضر التحقيق، كما سيحتاج إلى وقت إضافي للاجتماع بالمحقق العدلي السابق وبالمحققين الآخرين للاطلاع منهم على بعض التفاصيل، ولطرح بعض الأسئلة عليهم عمّا دُوِّن في المحاضر. وكلّ ذلك سيؤخّر مجريات التحقيق وسيؤخّر بالتالي العدالة. والعدالة المؤجّلة ليست عدالة “delayed justice is no justice” مقولة تتكرّر على لسان المراجع القانونية.
ثالثاً: إن التحقيقات الجنائية المعقّدة تنجح عادة في كشف الحقيقة وتحديد الفاعلين من خلال التدقيق في التفاصيل وربطها بتفاصيل أخرى جرى تحديدها سابقاً أو اكتُشفت لاحقاً. ومن بين مهمات لجنة التحقيق الدولية، كما القضاء اللبناني، التدقيق في احتمال ارتباط الجرائم الإرهابية والاغتيالات التي وقعت بعد اغتيال الحريري بعضها بالبعض الآخر. هذا الأمر يتطلّب متابعة ودقّة ومراجعة مستمرّة لخصوصيات الأدلّة الجنائية، وخاصّة المجهرية منها. كذلك يتطلّب ذلك دراسة أبسط تفاصيل إفادات الشهود والمشتبه بهم والناجين ومدى تطابق هذه الإفادات مع الأدلة الحسّية. هذا العمل الدقيق يستغرق وقتاً طويلاً، ويستوجب استمرار فريق العمل نفسه، لأنه من الصعب نقل كلّ التفاصيل المدوّنة وغير المدوّنة بين محقق وآخر.
رابعاً: يتميّز فريق تحقيق عن آخر بالمنهجية في التحقيق، كما بالمفهوم الجنائي. إذ كان واضحاً التفاوت بين أسلوب ميلس ومنهجية براميرتس، كذلك يبدو واضحاً اليوم الفرق بين التحقيقات التي يجريها فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي والتحقيقات التي تجريها مديرية المخابرات في الجيش اللبناني. ولا بأس بتحقيقين مختلفين، يقدّم كلّ منهما الأدلّة التي جمعها إلى المحكمة لترى ما هو مناسب بحسب المعايير القانونية. لكن في قضية الحريري، جرى جمع التحقيق اللبناني بالتحقيق الدولي، كما جرى جمع بين تحقيقات أبو عراج وعيد وميلس وبراميرتس، بينما كلّ منها يتضمّن بعض المعلومات التي لا تتفق مع الآخر، ما أدى إلى مشاكل عديدة. فقضية سجن الضباط الأربعة، اللواءين جميل السيد وعلي الحاج والعميدين ريمون عازار ومصطفى حمدان، بناءً على توصية ميلس عام 2005، ما هي إلا أحد الأمثلة على التفاوت الواضح بين التحقيقات المختلفة. وهذا الأمر ليس فقط عقبة أمام كشف حقيقة من اغتال رفيق الحريري، لكنه تجاوز للعدل والإنصاف، كما هي الحال في قضية سجن أشخاص دون اتهامهم قضائياً، ما دفع مراجع دولية في القانون، ومراجع روحية لبنانية، إلى رفع النبرة أمام إصرار القضاء اللبناني على الاستمرار في سجن الضباط الأربعة دون توجيه اتهام إليهم، وهو مخالفة لمبادىء العدالة.