جان عزيز
مع مطلع العام الدراسي الأول الذي أعقب غياب بشير الجميل، رُفعت في جامعات ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية يومها، صور كبيرة تحمل رسماً مظللاً لجانبية الرئيس الراحل، وتحتها عبارة بالفرنسية ترجمتها: «لقد عرفناه لكن ماذا عن الأجيال القادمة؟». بعد ربع قرن، تصدر جانبية شبيهة لبشير، على طابع بريدي تذكاري، في عهد الوزير مروان حمادة ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة ورئيس الجمهورية إميل لحود. الثلاثة لم يكونوا مع بشير في حياته ولا بعد مماته. والثلاثة كانوا بنسب مختلفة مناوئين لبشير، طيلة ربع القرن المنصرم.
الواقعتان السابقتان تطرحان السؤال: ماذا نعرف اليوم عن بشير الجميل؟ ماذا يجب أن نعرف عنه؟.
ذلك أن أبرز ما يواجه السائل عن بشير بعد 25 عاماً، هو هذه الثنائية المتناقضة من الأفكار المسبقة، والمقصود أفكار العامة المعبّرة عن وجدان الجماعات، لا أفكار السياسيين وطبقة الشأن العام. فمن جهة، تقوم مسلّمة اعتبار بشير بمثابة «المقدس»، ومن جهة أخرى، تطغى ولو على بعض كتمان وتحفّظ، صورة معاكسة منفّرة، والفارق بين الصورتين، كما الانقطاع بين أتباعهما، هو ما جعل الحوار حول بشير، وخصوصاً مع نهاية الحرب في التسعينات، مصدر صدمة للطرفين. ذلك أن المناخ السائد في منطقة بشير، لم يترك مجالاً لأي من جيله وما تلاه، أن يعتقد أن هناك في لبنان من يربط صورة «بطله الشهيد» باستدخال «العدو الإسرائيلي» إلى أرضنا.
والمناخ المناقض في المناطق الأخرى، لم يترك مجالاً مقابلاً للذين لم يعرفوا بشير، للاعتقاد بأن هناك في هذا الوطن من ينظر الى الذي «جاء على الدبابة الإسرائيلية»، على أنه أيقونه مؤسطرة، يكفيها أنها تجلّت في لحظة اندماج النصر في الشهادة، لتخلّد على غياب. واللافت أكثر أن قسماً كبيراً من هذه المشاعر المتباينة، بات يتجلبب اليوم ببعض المراعاة السياسية والكثير من التقيّة الاجتماعية والتحالفية، وذلك نظراً إلى التقاطعات السياسية التي أفرزتها تطورات العامين الماضيين، بين المعسكرين السابقين اللذين رعيا ذكرى بشير طيلة الأعوام الماضية. إذ فجأة وجد أحد مقدسي قائد القوات نفسه حليفاً لأحد «لاعنيه»، والعكس بالعكس في «تفاهم سياسي» آخر من الصورة السياسية اللبنانية الحالية. وهذا ما جعل مسألة بشير في النقاش الراهن، أقرب إلى «التابو» السياسي الاجتماعي. نادراً ما يُكسر، تاركاً إن كسر صمتاً وبعض النقزة. تماماً كما حين أشار السيد حسن نصر الله في 8 حزيران 2005 إلى شعار 10452 كيلو متر مربع، أو كما عند إصدار مروان حمادة طابعاً تذكارياً، تلاه «مدير إذاعة صوت الجبل»، الوزير غازي العريضي، بنبرة التشديد والتفخيم لعبارة «فخامة الرئيس الشهيد». وقد يكون السبيل الأكثر سهولة لنزع هذه الأغلفة عن مسألة بشير، هو بكل بساطة، العودة إلى بشير الإنسان، في استخلاص ما كان وحاول وفعل. فيُعاد التقويم لتاريخية هذا الزعيم، بعيداً عن صورتي «القديس» أو «الخائن»، كما طرحت حتى قضائياً قبل نحو سنة، على خلفية ملاحقة من آثار قضية مرتكبي جريمة الاغتيال. وفي أساسيات سيرة بشير، ثلاثة محاور هي الأبرز ربما، للأجيال التي لم تعرفه.
المحور الأول هو محاولة خروجه من دائرة التشكّل الأكثر تخلفاً في الحياة السياسية اللبنانية، وهي دائرة العائلية الإقطاعية، بكل أنماطها النسبية والمناطقية وحتى الحزبية الشكلية والمقنعة. وفي هذا المحور، يظل بشير منذ إطلالته على الشأن العام وحتى بعد ربع قرن على غيابه، رمزاً بهياً من رموز الثورة على النمط العائلي في الالتزام السياسي والوطني. أو على الأقل، يجب أن يبقى كذلك، ليظل متمتعاً ببعد الحلم، في واقع يضيق تدريجياً على الطامحين إلى مثل هذا الالتزام.
فبشير ابن بيار الجميل، الخارج على إرادة الأخير من دون الوقوع في عقدة «قتل الأب» الفرويدية، ضرورة اليوم، وأمس وغداً، في مجتمع سياسي بات موسوماً بوأد النخب واستنخاب أبناء البيوتات حصراً، لا استثناء لهم إلا أصحاب الشيكات في زمن الحلف المقدس بين المالية والعائلية.
أما المحور الثاني، فهو محاولة بشير الخروج من جمود الميثاق اللبناني في صيغة صنمية مؤبدة على شاكلة مطلع الأربعينات. فبين الفدرالية ولبنان الصغير واتهامات التقسيم والكنتنة والأسوأ، يظل الثابت الأساسي، أن بشير انتهى إلى ضرورة التطلّع الدائم نحو تطوير صيغة لبنان، على قاعدة ثبات الميثاق. فالأخير لا يتبدّل تحت طائلة انهيار لبنان. تماماً كما الصيغة لا تتأبدّ، تحت طائلة انفجاره. وهذا البعد الثاني في خلاصات بشير، ضروري للتأمّل والبحث اللبنانيين كل يوم، على قاعدة تأوينه وملاءمته لظروف الزمان والعصر.
ويبقى المحور الثالث، في رؤية بشير لعلاقة لبنان بمحيطه. وهي رؤية سجلت في حياة الراحل النيزكية تطوراً كبيراً، لا بل انقلابياً. وهو ما جعل أحد أقرب الناس اليه يستنبط ذات مرة تلك المقاربة من أن بشير أراد أن ينقذ وطنه باللقاء مع شريكه فيه. لكنه أدرك أن الوصول الى الشريك في الوطن يقتضي أولاً المرور بدمشق والقاهرة والرياض. ثم أدرك ثانياً أن الوصول الى هذا العمق العربي لشريكه يقتضي المرور بواشنطن. قبل أن يدرك أن الوصول الى واشنطن يقتضي المرور بتل أبيب. فأخذ الطريق الطويل، حتى وصل. وفي لحظة وصوله سقط، أو أسقط. فبشير الذي اغتيل، لم يكن بشير خطوط التماس في بيروت، ولا بشير الذي حاور محمد الخولي وزار الطائف، ولا بشير رحلة لا نفلي الشهيرة، ولا بشير نهاريا. الذي اغتيل هو بشير الذي التقى صائب سلام في قصر بعبدا رئيساً.
بعد ربع قرن، وبين «تابو» القديس والخائن، ثمة بشير يستحق أن يُعرف، وأن تُستخلص أساسيّاته، ليبقى لأجيال لم تعرفه، بُعد الحلم.