strong> فداء عيتاني
  • مــن نكبــة سقــوط السلطنــة إلــى مصيبــة عبــد الناصــر


  • من صوت الناعورة وتجمّعات سكانية متفرقة ومعاهد تعليمية بدائية تحتمي بظل الشجر من الشمس وصل الانتداب، وعرف الأهالي بانهيار السلطة العثمانية، فتخلّصوا من الخدمة العسكرية ومن الضرائب، لكنهم فقدوا الدولة التي ترعاهم، ومن فلسطين وصلت أنباء كارثة أخرى وشيكة: اليهود هنا يشترون الأراضي...


    ترنّح الشارع الإسلامي، وانهارت آماله بعد سقوط السلطنة العثمانية. كانت المملكة العربية السعودية تشهد مساراً آخر مختلفاً بدأ مع محمد بن عبد الوهاب (1703 - 1791)، الذي شق مذهباً حديثاً بناءً على ما أتى به «السلف الصالح»، مستعيناً على عصره بأفكار ابن تيميّة، وباثّاً أفكاره في محمد بن سعود (1697أسس الدولة السعودية الأولى عام 1744، توفي عام 1765)، وشهدت أرض الحجاز حينئذ من الكوت (الكويت حالياً) الى دوحة قطر صراعاً دموياً على السلطة. إلا أن الإمبراطورية العثمانية كانت تفرض سلاماًَ في مناطق أخرى، ومنها ما سيعرف لاحقاً بلبنان.
    وعلى عكس مملكة آل سعود كانت السلطنة العثمانية تمثّل للمسلمين دولة الخلافة، ولم يأت وصف حزب التحرير لانهيارها بـ«النكبة» من فراغ، بل استند الى رؤية إسلامية ترى أن انهيار دولة الخلافة أتى بزمن الشتات للمسلمين وزمن الهزائم المتتالية. وكانت دولة الخلافة هي من يحدد وجهة الجهاد الذي هو في النهاية في يد أولي أمر المسلمين.
    انهارت المملكة، وبقي المسلمون ضائعين. وكان انهيار دولتهم هو ما منع العديد من دولهم من دخول الحداثة التي كانت السلطنة قد شرعت في إدخالها رويداً رويداً إلى الأطراف، وبعد انتهاء الحرب الأولى أصبح أمر بلاد الشام متروكاً للنزاع بين القبائل والبدو القادمين من الصحراء وبين الفرنجة من جيوش فرنسية وبريطانية مستعمرة.
    تُرك المسلمون في بلاد الشام لأمرهم، واستيقظوا فجأةً ليجدوا أنفسهم دون وليّ أمر يقود خطاهم، وكان بديله هو الاحتلال الفرنسي في لبنان، وفي فلسطين كان المشهد يقود الى كارثة، الأمر الذي رفضه السلطان عبد الحميد الثاني (1842- 1918). بيع الأراضي من اليهود أصبح حدثاً يومياً، ومحاولات الثورة في فلسطين التي يقودها الحاج محمد أمين الحسيني مفتي القدس (1895 - 1974) تلفظ أنفاسها وحيدة، فالدعوة الى الجهاد التي كان يطلقها الحاج أمين بدت غريبة عن أذهان المسلمين في البلد المجاور لبنان، حيث كانت الدعوة تتم عادة عبر التجنيد في إطار جيش السلطنة، وهو ما اعتاده أهل السنّة منذ مئات السنين، بل منذ أكثر من ألف عام، إذ كانت التعبئة للجهاد وقفاً على أولياء الأمر، أما الدعوات الفردية فإنما هي بدع ومعصية وخروج عن الدين في نظرهمالشيخ إبراهيم الصالح الذي أدّى في الماضي القريب دوراً في حركة التوحيد الإسلامي، والذي درس التاريخ، يرى أن بداية الجهاد في لبنان كانت مع المرحلة الناصرية. صحيح أنها كانت جهادية غير دينية بالكامل، إلّا أنها حملت ملامح الجهاد الإسلامي. بينما يذهب الباحث الشاب محمد مصطفى علوش الى محاولة تلمّس بذور سابقة لهذه المرحلة، وخاصة تلك التي أتت من مصر مع عودة محمد رشيد رضا (1865 - 1935) الى بلده الأمّ لبنان.
    لا يرى أن الفكر السلفي طارئ في لبنان، بحسب ما يقول علوش الذي ينبّه الى أن الفكر السلفي ليس الوهابي حصراً. ويعود الفكر السلفي الى ما قبل إنشاء لبنان الكبير، أيام الخديوي عباس (الخديوي عباس حلمي الثاني (14 تموز 1874 -19 كانون الأول 1944) وهو آخر خديوي لمصر وحكم ابتداءً من 8 كانون الثاني 1892 وعُزل في 19 أيلول 1914)، أيام محمد عبده (إمام الأزهر وشيخه عهد الخديوي. ولد عام 1849 وتوفي عام 1905)، حيث أثّر محمد عبده في الشاب محمد رشيد رضا الذاهب من القلمون في الشمال اللبناني الى مصر للدراسة، زمن كان فيه الاستقطاب الأزهري المصري هو الوحيد وكانت الأشعرية هي المذهب السنّي شبه الأوحد في لبنان.
    وانعكس انفتاح محمد عبده واحتكاكه بالثقافات الوافدة في فكر تلميذه محمد رشيد رضا، الذي احتكّ أيضاً بالمدرسة السلفية الوهابية في بلاد الحجاز وعاد الى لبنان ليكون السلفي الأول في بلاد الشام، وأنشأ حينئذ مجلة «المنار» في مصر (على نمط مجلة «العروة الوثقى» التي أسّسها الإمام محمد عبده)، وجمع ما بين الفكر التنويري والفكر الوهابي السلفي، وحين عاد الى لبنان أصدر مجلة «تفسير المنار» وهي تحديث لطبعات «المنار» التي أصدرها في مصرعودة محمد رشيد رضا الى لبنان دفعته الى التعامل والتحاور مع كتاب وشعراء وأدباء مسلمين في الشمال خاصة، ترك فيهم بصمات من فكره، إلا أنها لم تصل الى حدّ تكوين فكر واضح على المستوى السلفي الإسلامي، بل حافظت على اعتدال المعتدلين من الكتّاب والمفكرين الإسلاميين.
    إلا أن الفكر السلفي الوهّابي الذي يناهض فكرة «الحاكمية لله» (أي الحكم بشريعة الله من كتاب وسنّة فقط وكل شكل حكم آخر هو حكم جاهلي) التي كانت تتبنّاها حركة الإخوان المسلمين في العالم، والذي يطرح «طاعة أولي الأمر» (وهو يعتمد الآية التي تقول «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» النساء: من الآية59) كجزء أساسي من معتقده، بدأ مع سالم الشهال، وكان أول ظهور لهذا الفكر مترجماً في جماعة «مسلمون» أو «شباب محمد» التي ظهرت في طرابلس عام 1947، والتي حاول من خلالها سالم الشهال فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدءاً من دور السينما في المدينة، وتجاوز نفوذ هذه الجماعة طرابلس الى بعض المدن السورية.
    إلّا أن هذه الجماعة لم تلقَ صدى واسعاً، لكن في المقابل انفجر صراع السلفيين الوهابيين مع الأشاعرة والصوفيين في لبنان، وأدّى الشهال دور المعلم للعديد من الشخصيات المعروفة في الأوساط الإسلامية اليوم، ومنها فتحي يكن وفيصل المولوي اللذان عادا وانتهجا نهجاً آخر. ولم يكن الصراع القائم بين الصوفية والسلفية يأخذ أي شكل تنظيمي ولم يبتعد عن إطار الصراع الفكري.
    يجد الشيخ ماهر حمود الذي كان من أوائل الداعمين للفكر الجهادي في مدينته صيدا، وخاصة عبر علاقته بقوات الفجر الإسلامية المقاومة، أن «من الصعب التأريخ الدقيق للفكر الجهادي الإسلامي، لأن الفكر الإسلامي يحمل بشكل مباشر فكراً جهادياً»، إذ لا يمكن الفصل في السور القرآنية بين الموضوع الرئيسي والخلاصات والدعوات الجهادية، «ولا يستطيع شاب يقرأ القرآن كسورة الحج، وهي تتحدث عن الحج إلا أن يصل في نهايتها إلى دعوة للجهاد»ويضيف حمود: إن المواضيع «تتوزّع في القرآن على نحو غير منهجي، وهي منثورة فيه نثراً، ولا يمكن أستاذاً في مسجد أن يقول اقرأ هذه الصفحة دون تلك، وكذلك السيرة النبوية، فلا يمكن الفصل فيها بين الدعوة والنقاش مع المشركين عن الجهاد. كذلك التاريخ الإسلامي والفقه. وحيث وجد الفكر الإسلامي وجد الفكر الجهادي بالتأكيد، وهذه جدلية يومية في داخل الحركات الإسلامية حول من يستعمل العنف أكثر من الآخر».
    الدعوة الإسلامية في لبنان «بالشكل الحركي» جاءت من خارج الحدود في تلك المرحلة، ووصلت دعوة الإخوان المسلمين من مصر وسوريا في أواسط الخمسينات، بحسب ما يروي الشيخ ماهر حمود، حيث وفد مصطفى السباعي (1915-1964) مؤسس الإخوان في سوريا الذي سبق أن جاهد في فلسطين، واستشفى في طرابلس أواسط الخمسينات، وأثّر على مجموعة من الشباب هناك، والشبان الذين يدرسون في أزهر مصر تعرفوا على الإخوان المسلمين، وانتقل كل ذلك إلى لبنان بشكل أو بآخر، «ولكن حتى لو افترضنا أن هذه الأفكار لم تنتقل من مصر أو غيرها، كانت ستوجد بطبيعة الحال» كما يقول حمود الذي يؤكد أن دواعي الفكر الجهادي كانت في كل الأحوال ستفرض نفسها وستخرج من أسطر القرآن ومن السنّة إلى حيز التنفيذ.
    شكلت جماعة «عباد الرحمن» التي أسسها محمد عمر الداعوق (1910 - 2006) أول حركة إسلامية في لبنان، وكانت في إطار كشفي واجتماعي، فلما جاءت أزمة عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، أصبح الفرز واضحاً، وانتقل الكثر من «عباد الرحمن» غير المسيسة إلى «الجماعة الإسلامية» الأكثر تسيّساً، وكل من كان في «عباد الرحمن» في طرابلس تحول إلى «الجماعة الإسلامية»، وحين تدخل إلى مركز «الجماعة الإسلامية» في طرابلس تجد لوحة عليها الآية «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا» سورة الفرقان 63. وهي لا تزال منذ أيام «عباد الرحمن».
    إلا أن الشارع السني كان مقسوماً بحدة: الأغلبية المطلقة كانت تؤيد عبد الناصر الذي لم يكن فقط صلاح الدين العصر، بل ذهب البعض إلى القول «لو لم نعلم أن محمداً خاتم النبيين لقلنا إن جمال عبد الناصر من أنبياء الله المرسلين»، بحسب ما يروي إبراهيم الصالح.
    بدأ الفكر الجهادي يظهر متزامناً مع نظرية الحاكمية لله التي أسس عليها الإخوان المسلمون فكرهم، وصار هناك ضرورة لإيجاد خطة لتطبيق هذه الفكرة التي تدعو إلى إقامة شرع الله، حيث يرى الإخوان أن الدنيا تنقسم إلى شكلين من الحكم: الحكم بالكتاب والسّنّة وإقامة نظام إسلامي يكون الحكم فيه لما أنزل الله، نظام حكم ما قبل الإسلام أو الجاهلي هو كل أشكال الحكم الأخرى.
    وفي النهاية، فإن البعد السياسي للفكر الجهادي هو إقامة نظام، أما الجمعيات الأخرى غير الجهادية فهي تهمل هذا الجانب، إلا أن أحداً من العلماء المسلمين في المنتصف الأول من القرن العشرين لم يحمل هذا الفكر المتفوق بحسب الشيخ ماهر حمود الذي يشير إلى من اشتهر من هؤلاء العلماء «محمد رشيد رضا من القلمون، والذي دعي محمد رشيد رضا قباني (المفتي) باسمه، ولكن رضا لم يطرح المشروع الجهادي كما نفهمه اليوم، ولكن دائماً كانت فكرة إقامة دولة الخلافة مسيطرة وهي الفكرة التي يركز عليها حزب التحرير بشكل يومي، غير أنها فكرة إسلامية عامة، وحزب التحرير يبسط الأمور ويقول عن الحل بالخلافة، بينما هناك فكرة أخرى تقول بالدعوة أولاً وتوحيد الناس قبل الذهاب إلى الخلافة».




    بلاد الرباط

    الشيخ أسامة شهاب سلفي وإمام مسجد ذي النورين في بيروت: «نؤمن أن الجهاد ـــ ومفهومه واضح ـــ هو لإعلاء كلمة الله، وبغض النظر عن الزمان والمكان، وأينما توافرت الظروف يجب على المؤمن القتال لهذا الهدف، وحالياً يعاني المسلمون بواعث الجهاد في سبيل الله، في كل بقاع الارض، أي أميركا وتوابعها، وهي تحاربنا بسلاحنا، أي أيضاً بمن يدّعون الإسلام من رموز وحكام، وتحاول الولايات المتحدة وقف الزحف الجهادي نحوها بهؤلاء الحكام والرموز».
    ويضيف: «في القرن الماضي أصاب الأمة الإسلامية إحباط من الداخل بفعل ضربتين: أولاً، سقوط الخلافة وثانياً، خسارة فلسطين. وخلال النصف الأول من القرن الماضي كان الشاب المسلم يعيش حالة الإحباط ولم تظهر أي من الحركات الجهادية، وخرجت مجموعات الإخوان المسلمين، وقامت عليهم دولهم وحكوماتهم، وقام عبد الناصر بالقضاء على الإخوان المسلمين في مصر، وفي الثمانينات تم القضاء على الإخوان المسلمين في حماه وحلب في سوريا.
    أقرب المجموعات الى الجهاد هي الموجودة في بلاد الرباط (سوريا والأردن ولبنان)».



    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر