لاهاي ــ عمر نشابة
يمكن وصف كارلا ديل بونتي بالمرأة الحديدية. فهي واجهت، قضائياً، المافيا الإيطالية ومصرفيين سويسريين وعدداً من السياسيين، بينهم الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين. ومنذ 1999، تشغل منصب المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا. وفي هذه الأيام، تخصّص جزءاً من وقتها للقاء الباحثين الأكاديميين لتوضيح بعض الأمور القضائية، وفي هذا الإطار التقت بها «الأخبار»


يخضع الأفراد المتوجهون إلى مقرّ المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة في مدينة لاهاي الهولندية، لإجراءات أمنية مشدّدة من الأمن الخاص التابع للأمم المتحدة. وتتشدد الإجراءات بشكل خاص، إذا كان المقصود هو مكتب المدعية العامة في المحكمة المذكورة كارلا ديل بونتي. فديل بونتي، خاضت قبل وصولها إلى منصبها الحالي، «صراعات» قضائية مع مصرفيين ورجال المافيا والجريمة المنظمة في سويسرا وإيطاليا، قتل خلالها زميلها الإيطالي جيوفاني فالكوني. كما أنها تسلّمت ملفات قضائية طلبت فيها تجميد حسابات مصرفيّة عائدة لرئيسة وزراء باكستان بنازير بوتو، واتهمت الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين بالتعامل مع المافيا الروسية. ورغم الحزم الظاهر في بريق عينيها، لم تغب عن وجهها ابتسامة تُشعر بالترحيب واللياقة.
التقت «الأخبار» ديل بونتي في مكتبها للاستماع إلى مواقفها من عدد من المسائل المتعلّقة بلبنان، وبالتحديد المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم المتصلة بها. وقد جرى اللقاء بحضور المتحدّثة الرسمية باسمها أولغا كافران.
عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قالت ديل بونتي إن «هذه المحكمة لم تنشأ أساساً للنظر بجريمة ضدّ الإنسانية أو جريمة حرب، لكن في جريمة اغتيال شخصية لبنانية بارزة. وهذا أمر مستغرب لدى البعض، لكن هذه المحكمة ضرورية بما أن المحاكم المحلية ليست مؤهلة أو قادرة على مقاضاة الجناة بحسب لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة» (اللجنة التي رأسها المحقق الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد).
وأضافت السيدة التي مثّلت جهة الادعاء الدولي العام ضد الرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش، أن «الأساس في قضية الاغتيالات في لبنان هو عدم إفلات القَتَلة من العدالة». وأعربت عن اعتقادها بـ«أن المحكمة الدولية ينبغي أن تضمن ذلك»، مضيفة: «إن عدد الضحايا ليس مهماً، وإذا كان رفيق الحريري أو مئات الضحايا الآخرين، لكن المهم أن تأتي المحكمة بالعدالة والسلام إلى لبنان».
وعبّرت ديل بونتي عن تأييدها للمحكمة الدولية «إذا كانت تأتي بالسلام إلى لبنان، فالعدالة هي التي توصل إلى السلام الحقيقي»، متابعة بالقول: «أعتقد أن إنشاء محكمة خاصّة بلبنان هي فرصة ثمينة لتحقيق العدالة في جرائم أخرى، إذ ينبغي توسيع صلاحيات المحكمة لتشمل جرائم أخرى مثل جرائم الحرب التي يشتبه بوقوعها في لبنان خلال تموز 2006».
وعمّا إذا تلقّت عرضاً لقبول منصب قضائي في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، قالت ديل بونتي: «للأسف لم يعرض عليّ منصب المدعي العام الدولي في المحكمة الخاصّة بلبنان».
وعن تدخّل السياسة في العدالة، قالت: «إن السياسة تؤدي دوراً كبيراً في مسارات العدالة. وعلى سبيل المثال، كنت قد بدأت مع فريق العمل التحقيق في جرائم الحرب التي يشتبه في أن قوات حلف شمال الأطلسي قامت بها في يوغوسلافيا السابقة. لكننا لم نستطع أن نجمع الأدلّة الجنائية الكافية لانتقال القضية إلى المحكمة. ولا يمكن إخفاء حقيقة أن عقبات سياسية وقفت أمام استمرارنا بهذا التحقيق».
وأعطت ديل بونتي مثالاً آخر قائلة: في قضية الجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب في يوغوسلافيا، هناك بعض الأشخاص من بينهم الصربيان كارادزيتش وملازيتش اللذان طلبتُ توقيفَهما وإحضارَهما إلى المحكمة هنا في لاهاي، لكن تدخلات سياسية حالت دون ذلك. لكنني متأكدة من أننا سنحضرهم الى العدالة عاجلاً أم آجلاً. والحكومة الصربية وافقت أخيراً على القبض على المطلوبين وأحالتهم للمحاكمة، لكنهم لا يزالون مفقودين. على كلّ حال أنا متأكدة من أننا سنقبض عليهم، وإذا لم نستطع هذا العام، فسيكون العام المقبل أو ما بعده. وآمل أن يقوم مجلس الأمن الدولي باللازم.
وأكّدت ديل بونتي أن «المجتمع العالمي لن ينسى أبداً الجرائم التي قام بها ملاديتش وكارادزيتش وغيرهما بحقّ 8000 مسلم في يوغوسلافيا، وأنا لن أنسى وسنلاحقهم حتى تحقيق العدالة». وعبّرت ديل بونتي عن «الحاجة إلى الدعم الأوروبي الكامل للقبض على المطلوبين وإحالتهم على المحكمة. وهناك بعض الدول التي لم توفّر بعد هذا الدعم الكامل المطلوب. وأنا أعلم جيداً أن للسياسة دوراً كبيراً في توجيه تصرّفات الدول، لكن، مع ذلك استطعنا أن نحقّق الكثير في المحكمة الخاصة بمقاضاة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا منذ انطلاق عملها عام 1999».
وعمّا إذا كان عمل المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا غير ذي نفع، وخاصة مع عدم التمكن من القبض على اثنين من المتهمين الرئيسيين، قالت ديل بونتي: «لستُ دون كيشوت، وأنا أعرف أن هناك صعوبات جمّة، وأن الأمر لا يخلو من التحديات. أنا لستُ متفائلة فحسب، أنا واقعية وأنا أعلم الصعوبات والعقبات التي قد تعترض مجرى العدالة، وأعلم أن للسياسة دوراً مهمّاً، لكن مع ذلك لن يُفلت الجناة من المحاسبة».