جان عزيز
يؤكد أحد أقطاب المعارضة أن النية السلبية لدى فريق السلطة، أو لدى أكثريته على الأقل، حاسمة ونهائية. ولذلك، فإن هذا الفريق يبحث عن صيغ للتنصل من المبادرات الداخلية، وفي مقدمها مبادرة نبيه بري، لا عن مخارج للقبول بها، تسمح له بالحفاظ على ماء الوجه. ويجزم القطب نفسه بأن قرار النواة القابضة على معسكر الموالاة، بالتصعيد، قد اتخذ، وأنه أُبلغ إلى جهات إقليمية معنية. لكن المفاجأة التي ستنتظرهم، على حد قول القطب المعارض دائماً، هي مبادرة المعارضة نفسها إلى استباق تصعيد الموالاة، بتصعيد من قبلها، بعدما باتت الحسابات والخلفيات والتطلعات مكشوفة ومعروفة.
وحيث يسكت القطب المقصود عن البحث في تفاصيل المسألة، يعتقد أحد العاملين على خط الاتصالات الداخلية والخارجية، أن العلة الأساسية تكمن في تقاطع حسابين مكتومين وعاجزين عن التظهير: الحساب الأول لدى اثنين من أركان فريق الموالاة، ومفاده أن لهما مصلحة أكبر، في احتمال الذهاب إلى المأزق، منهما في حال الوصول إلى حلول وتسويات.
والحساب الثاني، لدى الركنين نفسيهما، ومفاده أن واشنطن لن يغيّرها المأزق اللبناني، لا بل يمكن أن يقدَّم لها على أنه أفضل الخيارات بالنسبة إليها. ويشرح المطّلع على خطوط الوصل والفصل على الساحة السياسية اللبنانية، حيثيات ما سبق.
يقول إن الركنين المواليين المقصودين، متأكدان من أن أي تسوية أولاً ستكون على حسابهما. أو أن «ربحيتهما» من أي حل، لن تكون أقل مما يطمحان وحسب، بل ستكون تراجعاً عن مستوى رصيديهما الحاليين، حتى من النفوذ والحضور في أجهزة السلطة المختلفة.
يضاف إلى ذلك ترجيح لأن يكون لدى الركنين اعتقاد مكتوم، بأن في إمكانهما تثمير المأزق والإفادة منه. فمع وصول الاستحقاق الرئاسي إلى معركة فرضه قيصرياً بنصاب 65 نائباً، سيلوذ «معتدلو» السلطة بالصمت والتراجع والانسحاب، لتصير الساحة حكراً على «الصقور». وبالتالي، فالمعادلة داخل الفريق الواحد واضحة: أي تجاوب مع المبادرات يجعل هوية القاطفين متراوحة بين «الحمائم» من الموالاة، وبين المستقلّين من خارجها. فيما أي تأزيم، وصولاً حتى التفجير، يعيد ترتيب «الأحجام» و«الأوزان» التي تشوّهها أزمنة السلم والميوعة.
أما حيثيات الحساب الثاني، فيعزوها السياسي المطّلع، إلى اعتقاد لدى «صقرَي» الموالاة، بأن ثمة سيناريو للأزمة، تخطط له الإدارة الأميركية، أو على الأقل يمكن إقناعها به، وهو السيناريو القائل إن كل التطورات الأميركية للوصول إلى «لبنان أميركي»، على الطريقة الأردنية أو المصرية أو «الفتحاوية»، قد فشلت وسقطت إلى غير رجعة. وبالتالي، فإن كل رهانات واشنطن على تركيبة موالية في بيروت، تؤمن لها الدخول اللبناني في عملية التسوية الشرق أوسطية من جهة، وتقديم نموذج إسلامي سنّي أميركي الهوى وقادر على استيعاب الأصولية السنّية من جهة أخرى، أضحت في حكم الاستحالة.
وبناءً عليه، لا بد أن تكون واشنطن قد اقتنعت، أو يمكن إقناعها، بأن الاحتمال المثمر الوحيد الذي لا يزال متاحاً لحركتها ولمصالحها في لبنان، هو تحويل هذا البلد إلى أتون من نار، قادر على إحراق الأوراق المؤذية. بمعنى أن أي انفجار للوضع اللبناني، بما يؤجّج الصراع السنّي ــ الشيعي، ويسعِّر الصراع العربي ـــ غير العربي، قد يقدّم خدمات ملحوظة للمأزق الأميركي القائم في العراق، كما للعجز الأميركي العام عن التعامل مع العالم الإسلامي وعن مقاربة أزمة الديموقراطية فيه. والأهم أن أي تفجير عنفي للوضع اللبناني، بما يؤدي إلى توريط «حزب الله» فيه، يضيف إلى الخدمات السابقة، تحقيق هدف ثمين للمصلحتين الأميركية والإسرائيلية، ذي تأثير كبير على مختلف الأهداف الأخرى في المنطقة.
هكذا يعتقد السياسي المطّلع أن هناك داخل فريق الموالاة من يراهن على تقاطع، قائم أو ممكن، بينه وبين الإدارة الأميركية، على رفض كل عروض الحلول اللبنانية وكل صيغ التسويات والمبادرات. ويشير السياسي نفسه إلى أن هذا الرهان المتصوّر، قد يكون منسوجاً على خيوط رفيعة ومتباعدة، من نوع القول إن الإدارة الأميركية مثلاً، أبدت للمرة الأولى في تاريخها اللبناني، سلبية واضحة أو برودة أكثر وضوحاً، حيال دور ما لقائد الجيش في أي تسوية أو حل انتقالي، وهذا في اعتقاد أصحاب هذا التفكير مؤشر أول إلى أن الرهان الأميركي على حتمية الخروج من المأزق، لم يعد قائماً. ويتصور أصحاب القراءة نفسها خيوطاً أخرى مماثلة، مثل القول إن التعامل الأميركي، حتى مع الجيش كمؤسسة، قد يؤشر إلى ذلك. وهم يسوّقون في مجالسهم، أنه إبّان معركة نهر البارد، طلب الجيش اللبناني من واشنطن بنادق قناصة متطورة جداً، للتصدي لمثيلاتها التي بحوزة أصوليي «فتح الإسلام»، فتريّثت واشنطن بداية، وطويلاً، قبل أن تقبل بتقديم سبع بنادق فقط إلى الجيش، وعلى سبيل الإعارة وحسب، لا هبة ولا بيعاً، ولقاء بدل إيجار قيل إنه 700 دولار أميركي للبندقية الواحدة كل يوم. أما السبب المتخيّل، فهو الحرص الأميركي على عدم وقوع هذا السلاح في أيدي «حزب الله» في مرحلة لاحقة.
في أي مرحلة؟ في مرحلة ما بعد الفراغ الرئاسي وسقوط الدولة ومؤسساتها، وما بعد انفجار الوضع اللبناني على دوامة عنف جديدة، تخدم سياسة واشنطن باستدراج «حزب الله» إليها، وبنقل صراع المنطقة إلى محور الحرب الإسلامية ـــــ الإسلامية، على التقاطعين المذهبي والعرقي...
هكذا يكتمل السيناريو في أذهان ومخيّلات بعض السلطة: الحلول ليست خياراتنا الأكثر ربحية. التفجير مصلحة أميركية قائمة أو ممكنة. إذاً، فلنتصرف على هذا الأساس.
هل تصح هذه الحسابات؟ يسارع المطّلع نفسه إلى النفي. فثمة عوامل كثيرة، داخل فريق السلطة أوّلاً، وفي المعسكر الإقليمي الحليف له ثانياً، كما في واشنطن ثالثاً، تناقض هذا التصور. وللبحث صلة.