عرفات حجازي
خلافاً لما راهن عليه كثيرون، بعد البيان المخيّب للآمال الذي أصدره فريق السلطة ردّاً على مبادرة بعلبك، لم يطوِ الرئيس نبيه بري مبادرته، بل أكد تمسكه بها من دون أي تغيير في آليتها ومضمونها، تاركاً الكرة، مرة جديدة، في ملعب الموالاة، مع ابقائه لخيط الحوار مشدوداً، متسلحاً باحتضان شعبي واسع ومستقوياً بقوة الدفع العربية والاقليمية والدولية التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم. وعلى رغم الانتقاد الشديد اللهجة الذي وجهه بري الى بيان 14 آذار، والذي لم يعتبره جواباً على مبادرته، فإنه لا يزال يأمل بتعديل موقف الموالاة وتصحيحه من خلال خطوط الاتصال التي لم تنقطع بينه وبين كثير من اطرافها، خصوصاً بعد ما تسرب من معلومات عن لقاء بكفيا، وما تخلّله من مداولات حادة أظهرت تناقضات وتمايزات في المواقف بين مؤيد للسير في التسوية التي طرحها الرئيس بري، وبين مصرّ على رفضها والذهاب في خيار النصف زائداً واحداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وقد لوحظ، في اليومين الماضيين، أن بعض اقطاب الموالاة بدأوا بتغيير توجههم، بحصر الاهتمام في المرحلة الراهنة بالاستحقاق الرئاسي ودعوة المعارضة إلى مباشرة الحوار في هذا الموضوع، وذلك بخلاف ما تضمنه بيان بكفيا الذي اغرق الموضوع الرئاسي بالمسائل الوطنية والسياسية المتنازع عليها وهذا ما رفضه الرئيس بري بشدة في مقابلته التلفزيونية الخميس الماضي مشدداً على ان يكون التوافق محصوراً في شخص الرئيس المقبل واسمه، وعلى أن البحث خارج هذا السياق وفي المسائل الخلافية من صلاحيات الحكومة الجديدة التي ستتألف بعد انتخابات الرئاسة ويدخل في اطار التوافق على برنامجها الحكومي.
وتقول مصادر سياسية مطلعة على حركة الاتصالات الجارية بين بري وأطراف في الموالاة، إنه لا يمكن التعويل على التصريحات والمواقف والتعليقات التي تتناول المبادرة، حيث الكلام الحقيقي للفريق الاكثري لم يُقل بعد وقد يطول انتظاره بعض الوقت، فداخل فريق السلطة من لا يزال يراهن على متغيرات واهتزاز معادلات في المنطقة خصوصاً أن الرئيس جورج بوش مصمم على السير باستراتيجية المواجهة بكل ما يترتب عليها من مخاطر، وبالتالي فالولايات المتحدة ستدفع بالاستحقاق الرئاسي إلى ربع الساعة الأخير وستحاول الاستثمار عليه وابتزاز الآخرين بشأنه، كما يقول الرئيس بري الذي يعتقد أن لا مصلحة للقوى الخارجية وخاصة للولايات المتحدة بنقل لبنان إلى وضع متفجر، كما أنه لا مصلحة للدول الاوروبية في الوصول إلى صراع سياسي وحالة تصادمية تفتح لبنان على المجهول، فمصلحتها تقضي بحض اللبنانيين على التفاهم وفتح اقنية الحوار في ما بينهم وهي تحاذر حتى الآن من خلال موفديها وكبار المسؤولين فيها اتخاذ مواقف منحازة إلى جانب طرف ضد الآخر، فهم يدركون اكثر من غيرهم، ولا سيما الفرنسيين، دقة التوازنات اللبنانية الداخلية وأن أي خطوات ستؤثر حتماً على عمل قواتها العاملة في اطار القوات الدولية في الجنوب ومهماتها ومستقبلها. من هنا فإن فرنسا ومعها الدول الاوروبية تسعى بكل جهد إلى خرق الجدار المرتفع من عدم الثقة بين الاطراف ودفعهم للحوار وفتح الآفاق المسدودة أمام الحلول.
ويأمل برّي أن يتمكن من كسر الجمود الحاصل وهو سيتابع حراكه الداخلي من الآن حتى الخامس والعشرين من ايلول، وهو يعتزم القيام بزيارة بكركي التي تتهيأ لإصدار بيانها الثامن المنتظر أن يحمل نكهة فاتيكانية ويكون حاسماً لجهة القطع في عدة مسائل حساسة، أولاها التأكيد على نصاب الثلثين وثانيتها ولوج باب التوافق على الرئيس المقبل. ويعول بري أهمية كبيرة على هذا اللقاء الذي يجري العمل على تحضيره بعناية ليكون فاتحة حركة مكوكية جادة لاختيار اسم من بين مجموعة اسماء تنطبق عليهم مقاييس الحيادية والمواصفات الاخرى التي يطرحها صفير لمرشحي الرئاسة الأولى. كما أن السفير السعودي عبد العزيز خوجة يجهد بدوره لتدوير الزوايا وتوسيع مساحة التلاقي بين الاطراف، ويقول مطلعون على حركته إنه يعمل على ترتيب لقاء قريب بين الرئيس بري والنائب سعد الحريري الذي اكد في اول كلام له بعد المبادرة على اعتماد سياسة الجسور المفتوحة، وأن لا حل إلا بالحوار، والتوافق ليس مجرد خيار لدى فريقه بل هو قرار. ومن هذا المنطلق يتوقع أن تكون لزعيم الاكثرية النيابية لمسة أبيه الوطنية، وأن يبادر لملاقاة بري في منتصف الطريق ووضع جميع الاوراق على الطاولة والبحث في رجل المرحلة والوقوف معاً إلى جانبه لاستعادة السلطة الواحدة وحفظ الاستقرار المهزوز وتثبيت الخيارات الوطنية وحفظ المؤسسات.
وفي المحصلة، ورغم الصورة القاتمة التي رسمها الموفد الروسي ألكسندر سلطانوف واقتناعه بأن لا مسعى حقيقياً حتى الآن لحل الأزمة من جانب المجتمع الدولي، فإن اشادته بمبادرة الرئيس برّي وحركته الدينامية من أجل اطلاق حوار بين القوى السياسية تدلل على أن مبادرة بعلبك لا تزال وحدها على الطاولة، وأن الحوار بشأنها سيبدأ داخلياً وخارجياً، وأن واجب الجميع أن يساعد في خلق المناخ الحواري للبحث في التوافق على السيناريو الطبيعي الوحيد للاستحقاق الرئاسي من دون التلويح بخيارات الاحتياط التي يحتفظ كل طرف لنفسه في الإبقاء عليها.