strong>المصير قاتم إذا تعذّر تحقيق الاستحقاق الرئاسي ونتمنّى نجاح مبادرة بري
من قلب جريح، وفي بلد أصبح على شفير الهاوية «لشدة ما أصابه من محن، وتناوبت عليه من آفات، وأثخنت جسمه من جراح»، حذّر المطارنة الموارنة من مصير قاتم «إذا تعذّر تحقيق الاستحقاق الرئاسي»، محمّلاً مسؤولية ذلك لـ«رجال الحكم والسياسة، أمام الله والضمير والتاريخ». وإذ أمل لمبادرة الرئيس نبيه بري «أن تنجح»، رأى أن من واجب النواب أن يحضروا جلسة الانتخاب «قياماً بما عليهم من مسؤولية تجاه وطنهم ومواطنيهم، والاستنكاف في هذا المجال يعتبر مقاطعة للوطن، وما من أحد مهما علا قدره وعظم شأنه باستطاعته أن يقاطع وطنه، ويسهم في عرقلة أموره».
فقد اجتمع مجلس المطارنة أمس برئاسة البطريرك نصر الله صفير، وأصدر نداءه الثامن الذي شدّد في مستهله على لبنانية الحل لأنه «ما حك جلدك مثل ظفرك، وعبثاً نتلفّت الى كل الجهات يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، فلن نلقى ما نبحث عنه في غير أرض أبصرنا النور عليها».
وبالمصيري، وصف النداء استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية «الذي يتوقف على حسن اختياره، المصير الوطني اللبناني، ولا سبيل الى نهوض لبنان إلّا بتعاون رئيسه وحكومته ومجلس نوابه لتستقيم الأمور فيه، ويستعيد الوطن مكانته بين الأمم»، ملاحظاً «صعوبة الاتفاق على اختيار مواطن صالح يبادر الى إنقاذ البلد مما يتهدّده من مخاطر، وقد كثر المرشحون للمنصب الأول في الجمهورية، وكثر المندّدون بأي مرشح لمجرد ذكر اسمه». وترحّم على «عهد الكتلتين الدستورية والوطنية، يوم كان رئيس إحدى الكتلتين ينادى به رئيساً بما يقارب إجماع الأصوات».
وأمل انتخاب رئيس يجمع بين اللبنانيين «مجرّباً وذا خبرة في معالجة الشأن السياسي، ورأي حصيف ويقوى على أخذ قراره بذاته، يفرض هيبة الدولة، ويعمل على بسط سلطتها على جميع المواطنين، ومن واجبه أن يعرف أنه انتُخب ليحقق رغبات الشعب اللبناني، لا ليرضي أهواء هذا أو ذاك، أو تلك الدولة ومطامعها، أو ذاك الطرف، أو تلك الفئة من الناس». وأشار الى مبادرة بري التي «ترمي الى الاتفاق على اختيار رئيس للجمهورية يُجمع عليه اللبنانيون»، متمنياً لها «أن تنجح».
وأبدى تخوفه من ازدياد الهجرة التي «سبق أن كانت إفرادية تقتصر على بعض أفراد العائلة، فأصبحت تشملهم جميعاً»، إضافة الى أن الوضع العام «الذي لا يبعث على الاطمئنان، يحمل الكثيرين من اللبنانيين، ومن بينهم نواب ومسؤولون، على المغادرة الى أوروبا، أو إلى بعض البلدان العربية سعياً إلى الطمأنينة وخوفاً من اغتيال تناول أقراناً لهم دونما شفقة». وانتقد تحول البعض «عبيداً للمال، وعلى استعداد لبيع أنفسهم لمن يدفع أكثر، وهذا ما تناقله غير واحد من العارفين في الانتخابات الفرعية الأخيرة، فهل الفقر المتزايد يبيح مثل هذه الأعمال الشائنة؟».
وإلى الوضع العام، أضاف الى مسبّبات الهجرة: انتفاء أسباب العمل، ركود الحركة الاقتصادية «جرّاء الاعتصامات»، الحروب التي دارت رحاها في تموز وآب من السنة الفائتة، وفي هذه السنة في مخيم نهر البارد، الخلافات القائمة بين أهل السياسة في لبنان والجدل الذي لا ينتهي في ما بينهم»، معتبراً أن الخلاف «سياسي على أمور مصيرية تتناول الخيارات الأساسية للوطن، وهي إمّا أن يكون الوطن سيداً حراً مستقلاً يرعى شؤون أبنائه بمسؤولية كاملة، وإما أن يكون منقوص السيادة والحرية والاستقلال، وأن يكون تابعاً لسواه».
أضاف: «لقد رأينا الى أين أوصلتنا التبعية التي عانيناها طوال ما فوق الربع قرن، فبدل أن ننصرف الى معالجة قضايانا بتجرد وإخلاص، نرانا نولي وجوهنا شطر هذا او ذاك من البلدان، لنصغي الى ما يهمسون به إلينا، فنسرع الى العمل بإرادتهم ونتجاهل أنه ما من أحد في الدنيا يفضل مصلحة غيره على مصلحته الخاصة، ونفرح بما يمدوننا به من سلاح ومال لنقتتل ونتفانى. وهل من جهالة تفوق هذه الجهالة؟»، داعياً الى «إزاحة الغشاوة عن العيون»، ومنبّهاً الى أن البلد «وصل الى حافة الإفلاس والانهيار وتجاوزت ديونه أربعين مليار دولار أميركي، وكثير من اللبنانيين من ذوي الغايات والأغراض مستمرون في مماحكاتهم العقيمة». وانتقد لغة التخاطب السياسي، معتبراً أنها «لغة خشنة فيها الكثير من التحقير والازدراء للآخر، ومن لا يحترم نفسه فأنى له أن يحترمه الناس؟».
ثم تطرق الى موضوع التسلح، قائلاً: «اذا كانت كل طائفة كبيرة تحاول أن تهيمن على من سواها بما تقتني من سلاح وتحصل عليه من مال، أنّى جاء، وتبسط سيطرتها بالقوة والتخويف على أبناء وطنها، فلا نرى إذ ذاك لهذا المرض من دواء»، سائلاً: كبف ستتوافر الطمأنينة والثقة لجميع اللبنانيين «ما دامت هذه الفئة او تلك من بينهم تكدّس الأسلحة، وتحشد المقاتلين، وتدربهم على القتال وتكاد تقتطع لنفسها إمارة تستأثر بها وتمنع الذين يريدون الدخول اليها من تحقيق رغبتهم، او فضولهم، ولا تحسب أي حساب لسواها من الناس، ولا للدولة القائمة، وتستقدم ما تريد من البضائع دون رقيب او حسيب، وكأن لا رجال جمارك يسهرون على ما يدخل البلد من بضائع محظورة وغير محظورة، وهذا دونما شك، ينذر بتفكك خطير وبقيام دويلات متناحرة متحاربة على أنقاض الوطن الواحد». وحدّد الدواء بـ«أن يعود كل منا الى رشده وضميره ووطنه».
وتحت عنوان فرعي «تعالوا نبنِ وطناً»، أشاد بالجيش الذي «بدا متماسكاً أكثر من كل مرة»، ورأى أن الوطن «في حاجة الى جميع مواطنيه، أمّا اذا فكرت كل مجموعة منهم في بناء وطن مستقل، وبمعزل عن سائر المجموعات، وبدون أن تحسب حساباً لسواها من المجموعات فلا يبقى آنذاك من وطن يستحق هذا الاسم».
ودعا جميع المسؤولين الى الارتفاع الى مستوى هذه المرحلة العصيبة «فلا يبحث أحد منهم عن مصلحته الخاصة، بل علينا أن نبحث جميعاً عبر حوار صريح عن مصلحة البلد المشتركة، وأن نعرف معرفة اليقين أن مساحة لبنان أضيق من أن تقسّم، وأن عدد سكانه أصغر من أن يجزّأ، وأن علينا أن نقتنع بأنه مكتوب علينا أن نعيش معاً على قدم المساواة أمام القانون في جو من الأخوة والتعاطف والمحبة. ولا يجوز أن ننظر الى وطننا نظرة تشاؤم، على الرغم مما يعاني من مشاكل، فيما دول العالم تنظر اليه نظرة تفاؤل وتقدير (...) ولا يجوز أن نتلهّى بالترّهات فيما نحن مقبلون على استحقاق يتعلق به مصير البلد إلى حد كبير».