نقولا ناصيف
رفعت قوى 14 آذار وتيرة تصلّبها في بيان الصيفي، أمس، ودفعت في اتجاه تدويل آلية إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية بعدما أضحت هذه في واقع تدويلها سياسياً عبر الاهتمام العربي والدولي غير المسبوق. وعلى معرفة قوى 14 آذار بأنها لن تلقى الصدى الذي تطلبه من رئيس المجلس نبيه بري، وكذلك المعارضة، باستعجال إجراء الاستحقاق الرئاسي وتأمين نصاب التئام جلسة الانتخاب بدءاً من الثلاثاء المقبل من دون التوافق قبلها على الرئيس، فإن الموقف المعوّل عليه فعلياً هو مناشدتها الجامعة العربية ومجلس الأمن التدخّل فوراً. ويطرح بيان الصيفي بضعة معطيات من شأنها مضاعفة التجاذب الداخلي:
1ـــــ أنها لا ترتجي من الدور العربي، سواء كان من الجامعة العربية أو من الدول العربية المعنية بالشأن اللبناني، أملاً، وقد خبرت هذا الدور أكثر من مرة عبر الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والموفدين الشخصيين العرب والسفراء في بيروت، يوازنون بين ما يريده كل من قوى 14 آذار والمعارضة من غير تغليب وجهة نظر فريق على آخر، وإن بدا أن أحدهما ـــــ وهو فريق الغالبية النيابية ـــــ يدفع ثمناً باهظاً من شهدائه وتهديد الشرعية السياسية التي يمسك بها بغية تدميرها. ولذا بدت قوى 14 آذار، إذ تتوجه إلى الجامعة العربية فإن مخاطبتها إياها لا تعدو كونها عبارة ملغومة لهدف آخر، هو دعوة مجلس الأمن إلى التحرّك سريعاً لإنقاذ استحقاق الرئاسة اللبنانية. والمقصود بذلك الحصول على قرار جديد من مجلس الأمن يدعم فريق الغالبية النيابية ويوفر شرعية دولية لأي إجراء تقدم عليه بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وليس الاعتراف بشرعية الرئيس الجديد فحسب. بل يرمي فحوى ما تلحّ عليه قوى 14 آذار ـــــ وقد أعلنته جهراً البارحة بعدما كان نفى مسعاه أركان بارزون فيها بينهم الوزير مروان حمادة ـــــ هو الحصول على تأييد المجتمع الدولي لإقدامها منفردة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصاب النصف زائداً واحداً، وتأمين شرعية دولية تعوّض إجراءً غير دستوري. ويذهب موقف قوى 14 آذار إلى حد دعم هذا الخيار في الزمان والمكان اللذين تستعجلهما: لا في الأيام الأخيرة من المهلة الدستورية، ولا في مبنى مجلس النواب.
2 ــــ تسعى قوى 14 آذار إلى تأكيد طابع المواجهة المباشرة بينها وبين سوريا، والعمل على منع تدخّل هذه في الاستحقاق الرئاسي. تالياً لا يعكس توجه الغالبية النيابية إلى مجلس الأمن إلا تشبّثاً جدياً بتدويل الاستحقاق الرئاسي على غرار القرار 1559. ورغم تيقّنها من أن رئيس المجلس والمعارضة لن يوفرا نصاب الثلثين لجلسة انتخاب الرئيس الجديد خارج اتفاق الطرفين على المرشح، ولن يكونا خصوصاً جسر عبور من الدورة الأولى للاقتراع إلى الدورة الثانية لتمكين قوى 14 آذار من إيصال مرشحها إلى رئاسة الجمهورية، فإن الاقتداء بتكرار سابقة القرار 1559 لا تبدو هيّنة، وإن بدا القرار المأمول موجهاً إلى سوريا على أساس أنها العقبة الرئيسية أمام إجراء الاستحقاق الرئاسي.
والواقع أن القرار 1559 لم يكن ليشق طريقه إلى تنفيذ بعض بنوده لو لم يكن موجهاً ضد سوريا مباشرة، ويرفع عنها غطاء دولياً مزمناً في إدارة شؤون لبنان، الأمر الذي عنى كذلك اقتصار تنفيذه على الشق المتعلق بدمشق، وهو إرغامها على الانسحاب الشامل لجيشها من لبنان. إلا أن الشقين الآخرين في القرار، واللذين لا يقلان أهمية عن بند الانسحاب، ظلّا بلا تنفيذ بسبب اقتران تنفيذهما بالوضع الداخلي وتوازناته السياسية والطائفية، وحتمية موافقة فريق معيّن على هذا التنفيذ كونه يستهدفه هو بالذات. فرغم العزلة الدولية والداخلية والدعم غير المشروط لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة استمر الرئيس إميل لحود في ولايته ثلاث سنوات كاملة تنتهي في 24 تشرين الثاني المقبل، بسبب رفض المعارضة إسقاطه في الشارع أو حمله على التنحي. بدوره سلاح المقاومة لا يزال في حوزة حزب الله لتمسّكه به حتى يصار إلى تسوية وطنية كاملة على مصيره. وهكذا ظل تنفيذ القرار 1559 مجتزأً، مع أنه استهدف سوريا مباشرة، المسؤولة لا عن وجود جيشها في لبنان فحسب، بل أيضاً عن تمديد ولاية لحود وتسليح حزب الله.
يصحّ ذلك على استحقاق رئاسي تتطلّب ساحته راقصين اثنين، ليس في وسع أحدهما الاستئثار به ولا استثناء الآخر منه. لذا فقدت قوى 14 آذار، حتى الآن على الأقل، الأمل في استجابة رئيس المجلس لمناورتها، المشروعة، وهي تأمين نصاب انعقاد جلسة مجلس النواب الثلاثاء المقبل.
3 ـــــ على وفرة المواقف العربية والدولية التي دانت اغتيال النائب أنطوان غانم بوحشية مشابهة لتلك التي طاولت رفاقه النواب الثلاثة الشهداء، فإن جملة المواقف الدولية، وأخصها الأوروبية، ربطت بين إدانة الجريمة البشعة وتشجيع اللبنانيين على إجراء الاستحقاق في المهلة الدستورية، من خلال عودتهم إلى حوار داخلي في ما بينهم. وعزّزت هذه المواقف بضعة أحاديث خاصة، تبادلها سياسيون بارزون في قوى 14 آذار مع مسؤولين أوروبيين عزّوهم بالنائب الراحل، أبرزت المنحى الذي لا يزال يسلكه المجتمع الدولي، وهو بعث الحوار والتمسّك بمبادرة رئيس المجلس على أساس أنها الخطة السلمية الوحيدة لمقاربة انتخابات الرئاسة، وتفادي الفوضى والفراغ الدستوري. وما خلا خمسة مواقف رسمية أميركية صدرت عن البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية والوزيرة، إلى السفير في بيروت جيفري فيلتمان، فإن أياً من المواقف الدولية لم يوجّه أصابع الاتهام إلى سوريا. وهو ما عبّرت عنه ردود فعل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وباريس وموسكو ولندن وروما، وتركزت في مجملها على ربط دوافع جريمة الاغتيال بمحاولة زعزعة الاستقرار واستهداف انتخابات الرئاسة وتعطيل مبادرة بري. الأمر الذي عبّر عن مناخ دولي أقل حماسة لدور ما حيال لبنان قياساً بردود الفعل الدولية الساخطة بإزاء أعمال التفجير والاغتيالات التي سبقت، أو تلت، الإعداد لمشروع المحكمة الدولية، مما يُبرز المقاربة المتباينة للمجتمع الدولي حيال مشكلتين مختلفتين وغير متكاملتين سياسياً بالضرورة، وإن كانتا كذلك في نتائجهما: دفاعه غير المشروط عن العدالة الدولية، وتنبهه إلى مسار أزمة داخلية تقتضي معالجتها دقة خاصة نظراً إلى حساسية التعقيدات السياسية والطائفية المحيطة بها . وقد يكون المجتمع الدولي، من خلال الإشارات المهمة التي لمسها أقطاب وسياسيون في 14 آذار، أقرب إلى المحافظة على لبننة الاستحقاق منه إلى تشجيع تدويله.