مهى زراقط
في السابق كان يكفي «الأمل» ليكمل الناس حياتهم متعلقين به... لكن حتى هذا «الوهم» البعيد صار حلماً بالنسبة للنازحين من مخيم نهر البارد. هؤلاء المقتلعون مجدداً من أرض بنوها بعرق الجبين لا يصدّقون أنهم سيعودون، هكذا علّمهم التاريخ

«أحكي واللا ما أحكي؟ أحكيلكم حكاية إبريق الزيت...»
وإبريق الزيت في حكايتنا، هو الفلسطيني «المقتلَع» حسب تعبير عضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» مروان عبد العال.
هذا التعبير يعني، بلهجة الفلسطينيين اليومية: «الطلعة». إذ لا يمكنك أن تجالس فلسطينياً مقيماً في لبنان من دون أن يحكي لك عدد المرات التي «طلع» فيها من بيته. «وآخر «طلعة» كانت الأصعب» تقول الحاجّة الثمانينية هدية.
هي من مخيم البارد... لكنها تقيم حالياً في مخيم البرج مع ابنتها التي استأجرت شقة صغيرة هناك. قبل ذلك بقيت 25 يوماً تحت القصف في «البارد»، ولم تخرج إلا بعدما بدأ استخدام الأسلحة الثقيلة التي تسقط المباني. أقامت شهراً ونصف الشهر في «كاراج» في مخيم البداوي، ثم شهراً آخر عند ابنتها التي نزحت إلى مخيم شاتيلا: «فكيف لا تكون هذه الطلعة هي الأصعب؟».
«الطلعة» الأولى كانت عام النكبة. غادرت الحاجة هدية مع أهلها بلدة أم الفرج في قضاء عكا... تنقلت في قرى عديدة قبل أن تصل إلى صور في لبنان. في كلّ قرية كانوا يقيمون شهرين أو أقلّ ثم يلحق بهم الاسرائيليون، فيغادرون مع أهل القرية التي كانوا قد نزحوا إليها... إلى أن وصلوا إلى صور حيث كانت الشوادر (الخيام) منصوبة لاستقبالهم.
لا تتذكر الحاجة هدية التواريخ، الأمر مرتبط بالنسبة إليها بالبرد أو الدفء... «أقمنا فصل الشتاء في صور، ثم انتقلنا إلى عنجر وأقمنا في شوادر هناك...». بعد انتهاء فصل الصيف نقلوا إلى محيط نهر البارد: «كان لا يزال عبارة عن حرج، مهّدناه ونصبناه شوادر».
تتذكر جيداً أن كبار السن في المخيم رفضوا بناءه بالاسمنت على غرار ما فعلوا في البداوي «لأنهم خافوا أن يتوطنوا في لبنان». لكن عندما اهترأت الشوادر مع مرور السنين «أعطتنا «الأونروا» زينكو، فصرنا نبني الجدران من حجر والسقف زينكو، شوي شوي صار المخيم يكبر».
تعود مرحلة الزينكو إلى عام 1965 كما يذكر مروان عبد العال، موضحاً تفاصيل الأحداث التي ذكرتها الحاجة هدية: «عقد مؤتمر دولي من أجل إنجاز مشروع لإسكان الفلسطينيين، أي بناء أبنية أفضل من الخيم التي أقيمت في حينه، لكن أهالي المخيم رفضوا فكرة الإعمار على اعتبار أنه جزء من التوطين، وحطموا الشواهد التي رفعتها الفرق الهندسية التابعة للأمم المتحدة».
لم يتميّز «البارد» بأنه المخيم الوحيد الذي رفض الإعمار، بل هو أيضاً أوّل المخيّمات التي انتفضت على الأمن الداخلي اللبناني (الدرك) عام 1969 بعدما أثار افتتاح مكاتب لحركة فتح والجبهة الشعبية إشكالات أمنية أدت إلى تدخل سلاح الطيران آنذاك.
تكاد تكون هذه الحادثة الأمنية الوحيدة التي يذكرها أهالي مخيم البارد، الذين بقوا بمنأى عن الحرب الأهلية وتداعياتها، لكن الحاجة هدية تتذكر أن المخيم شهد اشتباكات «بين الفدائيين أنفسهم، جماعة أبو موسى وأبو عرفات» وذلك «بعد الحرب مع التوحيد في طرابلس»، ولم يتوقف إطلاق النار إلا «مع الإعلان عن سفر أبو عمّار من لبنان» تتذكر ابنتها.
قد يكون من أسباب هذا «الهدوء» الذي قلّما عاشته مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أن «البارد» كان يتبع، سياسياً، معقل القوميين العرب. يشرح عبد العال، وهو ابن «البارد» أن لمخيّمه خصوصية «لم يدخل في الحرب الأهلية، ولم يكن قائماً وسط محيط معادي. لذلك كان يعيش استقراراً أمنياً وأهله كانوا على تواصل اجتماعي جيد مع محيطهم».
تبلور هذا التواصل من خلال الدور الاقتصادي البارز الذي اضطلع به أهل «البارد». فذهنية «المقتلَع» تفرض على الفلسطيني أن يكون ناجحاً وشاطراً «معظم أبناء المخيم مثقفون وناجحون، وهم من التجار الذين أقاموا علاقات طيبة جداً مع محيطهم». هكذا تحوّل المخيم إلى حلقة الوصل التي تربط قرى عكار بطرابلس «وفي الأعياد لا يمكنك أن تضعي رجلاً في سوق المخيم بسبب العجقة».
أكثر من ذلك، كان «البارد» مركزاً لعدد من المعامل، وأصحابها من الأغنياء الذين اشتروا أراضي في محيط المخيم بنوا عليها «فللاً» وبيوتاً كبيرة تجعل أي مقارنة نسأل عنها النازحين من أبناء المخيم مع المخيمات التي لجأوا إليها ظالمة جداً بالنسبة إليهم. «الفرق شاسع جداً» تقول نادية قريبة الحاجة هدية «الناس في البارد دفعوا كلّ ما يملكونه لتأسيس بيوتهم، عكس باقي المخيمات التي شهدت حروباً كانت تدمر بيوتهم مرة بعد أخرى». هذه البيوت بنيت من تعب ثلاثة أجيال «تعب حقيقي، أجدادنا الذين هجروا من فلسطين فعلوا المستحيل لكي يعلّموا أولادهم وأحفادهم، وعندما بدأوا يسافرون ويعملون في الخارج راحوا يحسّنون أحوال أهلهم... المخيّم الذي تدمر هو جنى عمر».
هذا الكلام «العاطفي» عن تعب السنين، على لسان نادية، قد لا يفهمه كثيرون لا يتقنون إلا لغة المال... وأهل المال من أهالي البارد موجودون.
يسرد علي عوض ونادر السعيد، من لجنة تجار نهر البارد، مميزات دورهم الاقتصادي الذي أدّوه على مدى عقود وعلاقاتهم مع تجار لبنانيين من مختلف المناطق اللبنانيين «الكارثة لم تقتصر علينا وحدنا، هناك أصحاب مؤسسات لبنانيون يتعاملون معنا تضرّروا أيضاً، مصالحهم وارتباطاتهم معنا».
المأساة إذاً لا تقتصر على بيوت تدمّرت، لم يقدّم إلى اليوم أي دليل ملموس على أن هناك نية لإعادة إعمارها «كلّ ما يحصل حولنا يثير الريبة والتكهنات» تقول ابنة الحاجة هدية «لو كانوا صادقين في وعودهم لسمحوا لنا على الأقل بالدخول إلى المخيم وتفقد الأضرار... لسنا خائفين من الألغام، فليسمحوا لنا فقط بالدخول». تذهب أبعد من ذلك في تحليلها: «من أخرجنا من المخيم لم يكن في نيته إعادتنا...».
لكن، على الأقلّ، «الأونروا» ليست ممن لا يرغبون بإعادتهم. هذا ما يظهر على دفتر ملاحظات أعدّته الأونروا أخيراً ويحمله عبد العال، إذ كتب عليه «عائدون إلى نهر البارد». إلا أن عبد العال لا يخفي حالة القلق الكبير الموجود لدى الأهالي وإن بقي الأمل موجوداً بالنسبة إليه «لأن سياق تدمير مخيم البارد مختلف عن غيره من المخيمات التي دمرت سابقاً خصوصاً أن الفلسطينيين آنذاك كانوا جزءاً من الحرب» لذلك «لا خوف على إعادة الإعمار، بل الخوف من المماطلة، الزمن، البيروقراطية». أما بعد الإعمار فالخوف من تدمير البنية الاجتماعية للمخيم «وهذا أكثر ما يخيفني إذا لم تراعَ العلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة قبل تدمير المخيم» يقول عبد العال.
ممثل منظمة التحرير في لبنان عباس زكي مطمئن بدوره إلى أن إعادة إعمار للمخيم ستحصل، وهذا «حتمي»، مستدلاًّ على ذلك بمؤتمر الدول المانحة الذي عقد في 10 أيلول الجاري. برأيه «مجرد عقد هذا المؤتمر وحضور المانحين وعدم إعفائهم من مسؤولياتهم هو أمر ايجابي. لأن المطلوب في كلّ لحظة أن نطالب المجتمع الدولي، العاجز أمام اسرائيل عن تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، بأن يتجاوب على الأقل مع احتياجات الفلسطيني، خصوصاً حين تكون ثمة كوارث كما حدث في نهر البارد».
زكي لا يعير أهمية إلى حجم المساعدات الزهيد الذي قدّم «ليس هو الأساس، لأن الأوروبيين أعلنوا عن التبرّع بـ74 مليون يورو، وسيجتمعون ليقرروا حصص الدول الأعضاء»، لكنه يتوقف عند حجم المساعدة الأميركية «إن تبرعهم بـ 10 ملايين دولار يظهر بكل وضوح أن الولايات المتحدة هي دولة عادية صغرى لا دولة تقود العالم. قد تقود العالم عندما يكون الأمر متعلقاً باسرائيل، لكن عندما يتعلق الأمر بالعرب والفلسطينيين تصبح دولة أصغر من صغيرة».
يعترف زكي بأن المطلوب كان «دراسة كاملة تقدّم للمانحين لكي يكون هناك وقوف على دقائق الأمور. لكنّ ترك الأمر للتقديرات دفع المانحين إلى التروّي في انتظار المزيد من التفاصيل». معترفاً بأن «الدعم كان يجب أن يكون أكبر لكننا لا نعلّق الآمال على الهواء، الأقرب إلينا خذلنا فكيف بالبعيدين». ويرفض الاتهامات التي توجه إلى الممثلية بأنها مغيّبة عما يجري من مشاورات بشأن إعادة الإعمار: «نحن الضامن بصفتنا جهة سياسية معترفاً بها دولياً وممثلاً للشعب الفلسطيني... حضورنا يضغط على ضرورة إنجاز ما يتعلق باحتياجات البارد شعباً وإعادة البناء. دورنا ليس شكلياً فقط، نحن الآن من يوزع الوجبات الغذائية، ونقدم العلاجات التي تعجز عنها الأونروا والدولة». بالنسبة للبناء «مهندسونا دخلوا السرايا للمرّة الأولى. أما بالنسبة لصرف الأموال فهي ستوضع في صندوق خاص بإشراف البنك المركزي، ويكون الصرف بإشرافنا نحن والاونروا والحكومة في الوقت نفسه»، رافضاً التشكيك بخيارات أي حكومة مقبلة «نحن لا نعمل مع أشخاص بل مع نظام».
وعن سرّ كل هذا التفاؤل، يقول زكي «لا أعتقد أن العالم سيخذلنا. حتى لو اقتصر الأمر في النهاية على أن يلتزم الأغنياء من الفلسطينيين البناء إذا أدار العالم ظهره، وهذه ليست الحالة». لافتاً إلى أن «عدم إعادة نهر البارد يعني أن مؤامرة كانت تستهدف المخيم ولا أعتقد أن في إمكان أحد أن يتحمل هذا الأمر».




رنا حايك

اللقمة المعلّبة قد تشبع، لكن...

مناخ رمضاني عصبي يسود أزقّة مخيم البداوي قبل حلول موعد الإفطار بساعة. في مدرسة الكوكب، يتحلق الأطفال والأهالي حولنا ما إن تطأ أرجلنا المكان. ينزوي بعض الشبان يلعبون الورق، الأطفال بملابسهم الرثة يلهون في الملعب. تبادر النساء إلى التكلم معنا والبوح بشكاوى متشابهة تصبّ في أن «رمضان لا سحور فيه ووجبات الإفطار لا تؤكل».
يحتفظ جميع النازحين بالجميل لـ«تيار المستقبل» الذي يؤمن إفطارهم يومياً، لكنهم يحتفظون أيضاً بحق العتب عليه. فقد طالبوا مسؤوليه مراراً بالتخلي عن تقديم الوجبات التي لا يستسيغونها واستبدالها بمبالغ زهيدة تصرف لكل عائلة ويتولى أفرادها الطبخ. هكذا يتسنى للعائلات المئة والسبعين التي تعيش في مدرسة كوكب أن تأكل «على ذوقها» وأن توفّر لأفرادها السحور الذي حرموا منه حتى اليوم.
فالعائلات الفلسطينية محرومة من خصوصية مطبخها. يشتاق أفرادها إلى فتة الباذنجان والمسخّن والمقلوبة. تشتاق الجارات إلى الطبخ وتبادل الأطباق. وتشتاق المرأة عموماً إلى ممارسة دورها ربة منزل تطعم عائلتها مما صنعت يداها.
يطلب راجح إعادة بث ندائه لـ«الوزير» عباس زكي بتأمين هذه المبالغ للعائلات. تفتقد مريم، ولديها عشرة من الأبناء، اللحم والدجاج. تؤكد نسرين كلام جارتها في الغرفة رقم 28، فقد ملّ أبناؤها الأرز. وتطفر الدموع من عينيها وهي تشرح كيف تضطر إلى غسل الأطباق في حمامات المدرسة بعد الإفطار. فالمغاسل في الملعب لا تكفي 950 شخصاً عليهم غسل أياديهم بعد الأكل. تقترب عائشة بحذر مستندة إلى عكازها، هذه الحاجة التي تبلغ الخامسة والستين من العمر تحمل 11 كسراً من حادث قديم في جسدها، تستحمّ بين الستائر في غرفتها. هناك تغسل أيضاً بعد أن يحمل لها ابنها الماء في دلو من البلاستيك لأنها لا تستطيع النزول إلى الحمام. هي والكثيرون من النازحين لم يعودوا ينتظمون في أداء الصلاة، فالمحافظة على الطهارة صعبة في مدرسة الكوكب. بعضهن يطبخن البطاطا المقلية والباذنجان المقلي، ببعض أموال الصدقات التي يتلقّينها، لكن معظمهن لا يستخدمن الغاز الذي وزّع عليهن لأنه لا يشمل قارورة غاز يصل ثمنها إلى 70 ألف ليرة. ورغم كل ذلك، رفضت خلود أن تسمي طفلها الذي أبصر النور منذ شهر «مهجّر»، لأن هذا الاسم سـ«يعقّده» حين يكبر. نشف حليب هذه الأم من قلة التغذية، ففطمت «عُبيدة» عن الحليب قبل الأوان. ويبقى أن تعرف الأمهات إجابة سؤال آخر: متى يفطم أبناؤهن عن الحزن والبهدلة؟