strong> فداء عيتاني
  • الحروب تستعر في لبنان، وبقايا «التوحيد» انتشرت في البلاد تحاول إيجاد ملاذات آمنة. لم يعد الجهاديون في لبنان متناثرين. أصبحوا أكثر حنكة ودراية، وتوجهوا إلى السياسة بمعناها المباشر

  • بسام كنج الهارب من الحرب يتلقّى دعوة «القاعدة» في أميركا ويعود إلى الجهاد

    هرباً من جحيم المعارك، ولمتابعة دراسته، حصل شاب شمالي على منحة تعليمية من مؤسسة رفيق الحريري، وتوجه إلى الولايات المتحدة. الشاب هو بسام كنج، وهو من سيؤدي مع مجموعته دوراً تأسيسياً لما سيليه منطلقاً من كل ما سبقه.
    صيدا ومخيم عين الحلوة ستغرقان في نهايات الحرب في معركتين: حرب المخيمات وحرب «أمل» وحزب الله، وستخرج مجموعات كعصبة الأنصار وأنصار الله وتعاود الحركة الإسلامية المجاهدة أداء دورها في عين الحلوة، كذلك ستمر على لبنان أحداث جسام، نعود إليها لاحقاً. وفي هذه المرحلة كان تنظيم «القاعدة» قد ظهر في أفغانستان، على بقايا حركة الشيخ عبدالله عزام الجهادية.
    وبدل طرابلس الإسلامية ظهرت صورة بيشاور الباكستانية، وكان المناخ في أميركا، حيث يدرس الشاب كنج، مؤيداً للمجاهدين بصفتهم «مقاتلين من أجل الحرية»، وتأثر عدد من الشبان بأجواء هذه التعبئة التي كانت إلى حينه محصورة بوجهة عسكرية.
    حين قتل الشيخ عبد الله عزام (24/11/1989 بانفجار سيارة مفخخة في بيشاور بباكستان) أصبح أسامة بن لادن بديلاً منه، وثمة من يشكك بأن لأسامة بن لادن علاقة بقتل عزام. وكانت «القاعدة» من اسمها إلى عملها بكامله مجرد تعبيرات عسكرية، وعبارة عن مركز يستقبل مقاتلين ويدربهم ويرسلهم إلى أفغانستان للجهاد، وكان ثمة مجموعة صغيرة من عناصر «التوحيد» قد التحقت بالجهاد في أفغانستان، لكنهم عادوا مباشرة، بحسب ما يروي أحد المتابعين ميدانياً لتلك المرحلة.
    «بعد فشل الحركات الإسلامية التقليدية في تحقيق أي شيء، وصلنا إلى ما نحن عليه، فلم تقم حركة إسلامية في العالم السني بنجاح، وهذا أدى إلى اعتبار أن الطريقة البطيئة التي تتبعها هذه الحركات غير ناجحة وغير مرضية، ودفع بالحركات الإسلامية الأخرى إلى البحث عن القفزات الكبيرة، وإلى أسلوب التفكير الجهادي الحالي» كما يقول الشيخ ماهر حمود.
    «ولطالما كانت جذور الفكر الجهادي، من تكفير الحكام إلى استخدام العنف موجودة، لكن الفرق هو بين استخدامها بشكل هادئ تماماً كالدواء، الذي يشفيك بقطرة ويقتلك بجرعة كبيرة» كما يضيف حمود، «والفرق لدى الإسلاميين هو في حجم الجرعات، فكل الإسلاميين يريدون الخلافة وتحرير البلاد الإسلامية وتحرير فلسطين، وحتى الصوفي يفكر بهذه الطريقة، لكن الصوفي يتعامل بجرعات بسيطة جداً، والجهاديون اليوم يتعاملون بجرعات مفرطة». وأثرت مسألة الجزائر إلى حد بعيد، وبعد إلغاء الانتخابات النيابية (عام 1992) صعد نجم التكفيريين، وخاصة القادمين من أفغانستان. وكذلك في مصر، «فاليأس من الأسلوب السلمي يسبب ظهور الفكر التكفيري، وهو ما يتحمله في العمق الحكام بشكل عام» كما يرى حمودويشرح أحد كوادر «الحركة الإسلامية المجاهدة» جانباً من الصورة، حيث في عام 1998، تأسست «الجبهة العالمية الإسلامية لجهاد اليهود والصليبيين»، وبدأت الجماعات الإسلامية المختلفة المنضوية تحت هذه الجبهة، بقيادة أسامة بن لادن وقائد «جماعة الجهاد» المصرية أيمن الظواهري، التحضير والتنفيذ لعمليات ضد أهداف أميركية في المنطقة. جاءت هذه العمليات تنفيذاً لفتوى أصدرتها هذه الجبهة مفادها: «إن حكم قتل الأمريكان وحلفائهم، مدنيين أو عسكريين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه، وذلك حتى يتحرر المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضتهم، وحتى تخرج جيوشهم من كل أرض الإسلام». ويقول الكادر في الحركة المجاهدة الذي يرفض نشر اسمه أو موقعه: «بعد هزيمة الروس في أفغانستان، وفي أوج أحداث البوسنة، وبعد ضرب التجربة الجزائرية، ومراوحة القضية الفلسطينية في نطاق اتفاق أوسلو، مرت الأمة بمرحلة إحباط في كل العالم».
    ويضيف: «حينها اتصلت الجبهة بكل الأقطاب في العالم، ونجحت مع البعض وفشلت مع آخرين ، وبدأ حينها التواصل مع بلاد الشام. واحتلت الناحية العسكرية حيّزاً مهماً في عمل الجبهة، وخاصة بعد ضربات تنزانيا (في السابع من آب 1998 تمّ تفجير حافلتين، وقد فصلت بين العملية والأخرى تسع دقائق، خارج مبنى السفارة الأميركية في تنزانيا، حيث قتل 224 شخصاً بينهم 12 أميركياً).
    ويلخص وجهة الجبهة كالآتي: «الصراع مع الأنظمة أثبت عقمه، فهي مدعومة من واشنطن والغرب، ومهما تعرضت للضربات فلن تقع، ولا يتم القضاء على هذا الوضع إلا بتوجيه الضربات إلى رأس الأفعى. والغرب من ناحيته لم يكن بريئاً، في مواقفه من الجزائر إلى البوسنة إلى فلسطين، وفي الصراع مع إسرائيل كان له دور كبير».
    ويقول كادر شمالي ملاصق للجماعات الإسلامية الجهادية إن «جمع التبرعات لمصلحة العمل في لبنان بدأ في بدايات 1998، وكان ذلك تحضيراً لخلايا تعيش بأمان وتدعم المجاهدين انطلاقاً من لبنان، وحتى اللحظة تُجمع تبرعات بشكل سري للغاية كما هو معروف، لكن بطرق وأساليب مختلفة وفردية أحياناً».
    ويرى العديد من علماء الدين في الشمال أن «كل الأحداث الأمنية التي حصلت في تلك الفترة (ما بين 1998 و2000) هي من آثار مجموعة الضنية، من الهجمات على مراكز تجارية أو أعمال أمنية فردية واغتيالات وإلقاء قنابل وغيرها. وكان الرد الأمني تفكيك هذه المجموعات بما فيه اعتقال رجال دين».
    إلا أن قصة بسام كنج ومجموعة الضنية، من وجهة نظر من عاشوها ـــــ لم تنشر إلى اللحظة، وهي إلى اليوم طي الكتمان، ولا يزال الناجون من العمليات الحربية التي أدت إلى مقتل عدد من المجاهدين في الضنية وأسر عدد آخر، يعانون من نتائج تلك المرحلة. لم يعد أحد منهم إلى الجهاد المباشر، ولم يتورط أي منهم في أحداث نهر البارد، وإن كان أبو جندل (بلال المحمود) قد قتل في الشارع، إلا أنه لم تثبت إلى اللحظة أية علاقة له بفتح
    الإسلام.
    ورغم ذلك أصبح كل عمل أمني يوصف بأنه من إنتاج «جماعة الضنية» أو «ما تفرع منها» وكلما ذهب موفد أجنبي إلى مقر الرئاسة الأولى في بعبدا يسمع كلاماً عن أسبقية لبنان في مكافحة الإرهاب في الضنية، ولا يزال الحديث عن مقتل الضابط ميلاد النداف يعتمد على ما سيق في التقارير والتحقيقات الرسمية، والكلام الذي قيل في قاعات المحكمة على لسان المتهمين والضالعين في الضنية، وما جرى هناك كلف هؤلاء اضطهاداً وملاحقات وتعذيباً في السجون.
    إلا أن الضنية أسست لدى المجاهدين اللبنانيين لمرحلة لاحقة، بسام كنج الذي آثر الموت على الفرار في نهاية المعارك وهزيمة مجموعته، حفر حفرة لا تزال تجد من يحفر فيها ولا تني تتعمق وتتوسع، وكلما قامت القوى الأمنية بعمليات دهم في الشمال يتذكر أهالي المناطق السنية الفقيرة والبيوت المتداعية أن مجموعة الضنية بدأت رحلة موتها من عمليات ملاحقة واضطهاد تعرضت لها في طرابلس والمناطق المحيطة كأبو سمرا والتل والضنية وبعض قرى عكار. ويتحدث شبان يستفزهم القمع والاعتقالات كل يوم عن الجهاد وعن بسام كنج، الذي أصبح أشبه بأسطورة، رغم أن من عرفه لم يقدمه كذلك.
    يتحفظ من عاش تلك الحقبة عن الكلام عليها. ندر أن تجد من يريد الكلام. ومن شتات الخارجين من السجن والمتهمين يمكن جمع الرواية التالية: من عاش التجربة مقتنع بأنه دفع ثمن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وبأنهم قاوموا على طريقتهم وكانوا فداء لعملية تضمنت شروطها ضبط الساحة المحلية من أية قوى غير ملتزمة بشروط الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني.
    في مقابلة تلفزيونية يتحدث المعتقل جميل حمود من داخل السجن إلى مارسيل غانم في حلقة تأجل بثها، وحين عرضت سمع المشاهدون جزءاً من رواية حمود لما جرى في الضنية، وسمعوه يتحدث عن الضابط ميلاد النداف ويعقب ذكر اسمه بعبارة «رحمه الله» التي لا تستخدم وفق الإسلاميين إلا لمن كان من المؤمنين.
    حمود الذي يرفض الكلام للإعلام لا يستخدم كلمة شهيد عادة، وقد حذر من استخدامها حتى حين يتحدث عمن مات في أحداث الضنية، وحين قال «رحم الله ميلاد النداف» فهو، بحسب من يعرفونه، «لم يكن يتحدث عن رجل نصراني، بل كان يقول رحمه الله ليوصل رسالة معينة مفادها أن ميلاد النداف قبل مقتله قرأ شهادة «لا اله إلا الله» وكان قد سبق أن جرى نقاش طويل بين النداف وحمود.
    ويقول المشاركون في تلك الرحلة التي تحولت إلى معركة ومجزرة إنه لا أحد يعلم ما كان في قلب ميلاد النداف، إلا أنه قرأ الشهادة قبل مقتله في كل الأحوال، سواء خوفاً أو اقتناعاً أو مسايرة.
    وكان حمود قد قال خلال حصار المجموعة في أحد المنازل قبيل مقتل النداف «إن الجيش الآن يقصف هذا المنزل، ونحن نواجه الموت، فاقرأ هذه الكلمة، شهادة أن لا إله إلا الله، وهي قد تفتح لك أبواب الحياة الأخرى». وتلفظ النداف بالشهادة، فقال حمود: «أتمنى أن يكون ما صدر صادراً من قلبك». وبعدها بدقائق مات النداف.
    النقاش مع أفراد عاشوا مرحلة الضنية ينطلق من تعريف مفهوم كلمة جهادي: هل هي ما يجري في العراق أم ما تمثله «القاعدة»، أم أن أية حركة لها نشاط عسكري يمكن إطلاق تسمية جهادي على نشاطها؟ ثمة مسافة في التعريف وفي النظرة ما بين قوات «الفجر» التابعة للجماعة الإسلامية التي كانت تقاتل الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب و«حركة التوحيد» التي كانت تقاتل القوات السورية في الشمال، كما أن هناك فرقاً بين هذه الحركات والقاعدة اليوم.
    ويشمل العمل الجهادي «كل حركة إسلامية لديها أهداف سياسية تبنت العمل العسكري»، بحسب هؤلاء، وكانت «حركة التوحيد» تقاوم «الوجود النصيري» في الشمال، وصنفت نفسها لذلك حالة جهادية، وكانت بهذا المعنى «قوات الفجر» هي أولى القوى الجهادية الإسلامية التي ظهرت كرد فعل على الاجتياح الإسرائيلي.




    بسام كنج



    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر