أنسي الحاج
تقول الجريمة الواضحة إنّ الكلام مَضْيَعة للوقت، وإنّ المتعفّف عن القتل أبله حَكَم على نفسه بالخسارة.
الجريمة تصبح واضحة لا لتقول: أنا قويّة، بل لتقول: أنا عَدَميّة، إذاً أنا الأقوى.
بهذا حُكم لبنان المسكين منذ وقيعة بوسطة عين الرمّانة عام 1975.

عَدَميّون استعملوا مقهورين وأولاداً قاصرين ومتعصّبين، أي مقهورين وأولاداً قاصرين.
عَدَميّون، سوريّون وفلسطينيّون ولبنانيّون، انطلقوا من خنادق الخوف أو الهوان أو الأقلّوية، وانتصروا ما داموا على إيمان بأنهم إن لم يربحوا فلن يخسروا شيئاً.
لننظر إلى الخلفيّات نرَ الحاضر والمستقبل.
الشعوب والطوائف والفئات التي عانت طويلاً حتّى خزّنت آلامها فتحجّرت فيها الرحمة، هي أكثر مَنْ تَحرّك ويتحرّك في الشرق الأوسط، وأحياناً كثيرة مُحَرّكَة من دوائر التحريك الدولي والاستخباري، وهي تتوهّم، لا أنها تنشط بإرادة ذاتها الحرّة فحسب، بل إنها تجاهد ضد أولئك الذين تجهل أنهم هم الذين يستعملونها...
إن ماضي كلّ فئة من هذه الشعوب محفوظ ومدروس بعقل بارد في غرف الاستراتيجيين الملحقين بالقوى الحاكمة جهراً أو سرّاً، من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا إلى إسرائيل، وكل عصب من أعصابها معروف ومقروء، وعلى آليّة انفعالاتها في الماضي تُوَجّه انفعالاتها في الحاضر. فصول التاريخ في خدمة المصالح. كان يمكن أن تحظى هذه المنطقة بشيء من الهدوء لو لم يُحْكَم عليها بثروة النفط. النعمة لدى القويّ هي ذاتها لعنة لدى الضعيف.
بلى، بيننا فئات استقوت على فئات، فتراءى كأنها باتت قوة شبه عظمى، لا تُدار بل تشارك في الإدارة، وتوصف بأنها «طرف إقليمي».
هل نصدّق هذا الانطباع؟ لا، ما دام الطرف الإقليمي لا يستقوي إلاّ على الأضعف منه... وما دامت القوى العظمى تواصل لعبتها الأمميّة بازدهار مطّرد لها وبتدهور شامل لنا نحن الأضعف وكذلك للأطراف الإقليميين، كسوريا وإيران ومصر والسعودية، الذين قد يُخيّل إلينا أو إليهم أنهم ترقّوا في لعبة السيطرة إلى مصافّ المسيطرين، وهم في الحقيقة ممسوكون مثلنا في فخّ لعبة لا قيمة فيها إلاّ للجالس على جماجم الجميع، ولو ألهى بعض الضحايا بإعطائه ضحايا آخرين.

الجريمة الواضحة تفتخر بنفسها، ويغيظها أن تُبرَّأ. إن ما يخدمها هو دَويّها، وأن تُرْهِب.
يقول السفسطائي: لا يمكن أن يفعلها المتّهم بفعلها، فهي صارخة جدّاً، وهو ليس من السذاجة بحيث يرتكب ما يدلّ عليه. فتّش عن المستفيد...
المستفيد هو نفسه الفاعل. الفاعل الواضح المبتسم بأسنانه البيضاء. المستفيد هو الذي لا يزال، فيما هو يذبح الضحيّة، يصرخ فيها: أنا ضحيّة أكثر منكِ!

على طريق انتخاب رئيس؟ أم لتعطيل انتخابه؟ ومَن هو الرئيس؟
عقدت إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية قبل أيام ندوة عن مفهوم الزعيم، شارك فيها أدباء ومفكرون ورئيس الحكومة الفرنسية السابق دومينيك دوفيلبان، وكانت له هذه العبارة: الرئيس (أو، تحديداً، الزعيم le chef) ليس هو الذي يُخيف، بل ذلك الذي يَخاف. يقصد: يخاف الفشل، وتخييب الشعب، وهَوْل المسؤوليّة، ويخاف الزوال...
وحدّد غيره مفاهيم أخرى للزعيم: ذو السطوة الطبيعيّة، ذو المغناطيس الطاغي، الذي يغيّر عالمه، الذي تغذّي صورتُه المستقبل، الذي يستطيع الشعب أن يعكس عليه أفضل ما فيه، الذي يشبه قائد الأوركسترا في حُسن توزيع المهام والصلاحيّات، القادر على صهر المجموع في كلّ واحد، إلخ...
على مَن تنطبق هذه المواصفات من الطامحين في لبنان؟ لجهة الاستقطاب المغناطيسي يقفز اسم الجنرال عون. لناحية مواهب قائد الأوركسترا، ربّما نسيب لحود وبطرس حرب. في الوصل بين الاضداد، جان عبيد. الذي يخاف الفشل؟ لا جواب. الذي يخاف الزوال؟ الجميع. الذي يصهر المتفرّقين؟ الجواب رهن بسوريا وأميركا وإيران والسعوديّة، مع الأسف، وما دام فينا رؤوس اعتادت الالتحاق.
ولكنْ هل يريد السياسيّون اللبنانيون رئيساً للجمهورية؟

يبدون كأنهم ما عادوا يريدون. سلوك قادتنا تفوح منه رائحة الإمعان في الانشقاق. والناس العاديون أنفسهم، لولا أمل عندهم بأن الانتخاب إذا حصل قد يحمل انفراجاً معيشيّاً، لما عنى لهم الأمر أيّ شيء.
عودة إلى الزعيم، نراه في ثلاثة: القائد الفادي، القائد الفاتر، القائد الفاتح... سمة مشتركة بينهم، غير حرف الفاء، هي الطموح. الأوّل طموحُ أنْ يُصْلَب، الثاني أن يتّقي شرّ الجميع، الثالث أن يَقْتل.
الفادي هو الأفضل للشعب، لكن السياسيين ونادي الدول «المُحبّة للبنان» يفضّلون الثاني.
الثالث حلمُ كثيرين... شرط أن يتجسّد فيهم.

كان الرومان يقولون إن الجريمة تتغطّى بجريمة أخرى. هذا ما يبرهنه تسلسل جرائم الاغتيال والإبادة منذ 1975. بين الحلقات فسحات من استراحة القاتل.
القاتل العادي يبحث بعد جريمته عن الستْرة. يَهرب ويكذب. القاتل السياسي ممثّل تاريخي، يبحث عن التصفيق لا عن مَهْرَب. في نظره مَنْ يجب أن يَهْرب هو البريء، ولن ينجح البريء في الإفلات منه، وإذا أفلت مؤقتاً، فما هي غير زيادة في الإثارة. القاتل السياسي قَدَر منتصر «عقابُهُ» السلطة والمزيد من السلطة. القاتل السياسي المنهجي مقتنع بأن الكلام قارب نجاة، مجرّد قارب نجاة وأداة تمويه، وأنّ الكلمة هي الفشل عينه، وأن الدم ملح الأرض.
دم الآخرين طبعاً.

التقيتُ بشير الجميّل مرّتين. في الثانية، وكنّا على عشاء في دارة إحدى الشخصيات «المحايدة»، سألته: لماذا لا تنقل المقاومة إلى أرض الخصم كما فعل الجزائريون؟ فقال: «لا أريد أنْ يقول عنّي العالم إنّني إرهابي».
كان هذا تفضيلاً للبقاء على الصليب. «الفضيلة» وسط الموت. الصيت الحَسَن. ندافع دفاعاً ولا نهاجم. أوادم بين الثعالب والضباع.
وهذا كان بشير الجميّل، وكان مَن كان في ميدان القتال.
«العالم».
نحن جزء من العالم المتحضّر. شاركنا في وضع شرعة حقوق الإنسان. في تأسيس الجامعة العربيّة. في خَلْق التنوير. في بَعْث اللغة العربيّة. في إنشاء نظام تعايشي إعجازي مهما طُعن وتناقَضَ. قد نتقاتل بعضنا ضد بعض قتال المجانين، لكننا لن نعتدي على أحد في بلاده. لم يعتدِ لبنان على أحد منذ الفينيقيّين. نحن مسالمون ولا نحمل السلاح إلاّ دفاعاً عن أرضنا وحريّاتنا.
هل تصمد هذه النظريّة بعدما بُرّح بالبلد المسكين كلّ هذا التبريح؟ أليس في هذا يكمن بعض الفرق بين مقاومة «إسلاميّة» ومقاومة «مسيحيّة»؟ هل من المستحيل إقامة همزة وصل بينهما، وَصْل مادي حقيقي، خارج إطار الرياء الخطابي؟ المذبوح هو لبنان كلّه، دوماً، منذ البداية. لماذا يكون المنتفض فيه تارةً يده اليمنى وطوراً اليسرى، ولا يكون ولا مرّة هو كلّه المنتفض؟
يقول الصالحون إن تنوّعنا الثقافي يَجْمعنا ولا يُفرّقنا. إلى أي مدى هذا صحيح؟ في طيبة الناس العاديين فقط، صحيح. على المستوى السياسي، بل القيادي العام، غير صحيح. نحن مجتمع مقسوم ومشوَّه على المستوى الوطني والسياسي.
الرئيس المرتجى هو الذي يولَد من نقطة افتراضية قد تكون موجودة بين الانقسام والتناغم. نقطة صغيرة يجب حمايتها وتنميتها حتى تصبح جسراً صَلْباً يربط بين فروع هذا التنوّع الديني والثقافي الذي يهدّد بأن يصير صدْعاً مصيريّاً وافتراقاً.
الرئيس المرتجى هو الذي يصل إلى جلسة الانتخاب ويؤدّي اليمين... واليسار...
ويبقى حيّاً.