جان عزيز
قبل ساعات من اغتيال النائب أنطوان غانم، كانت قد بدأت تتبلور حركة الاتصالات والمساعي بين بكركي وعين التينة وقريطم. وبدأ العد العكسي لظهور نتائجها، بدءاً من أن يقوم رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بزيارة إلى الصرح البطريركي للقاء الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، وإطلاق آلية ما لمتابعة مبادرته التي كان قد أعلنها في بعلبك في 31 آب الماضي.
مصادر مواكبة للحركة على مثلث بكركي ـــ عين التينة ــــ قريطم، كشفت أن قسماً لا يستهان به من الشكوك ونقاط انعدام الثقة وعوامل الرفض والتحفظ، كان موضع معالجة في الأيام القليلة الماضية، وتؤكد أن قراءة مشتركة يتم السعي إليها، لتكون إطار تفكير وعمل موحدين بين هذه المواقع، وبين كل منها وما حوله من قوى وحلفاء ومرجعيات.
وأوضحت الجهات نفسها أن نقطة العمل الأولى بدأت بتقديم صورة متقابلة للطرفين، مفادها أن كلاً منهما يملك مصلحة واضحة وأكيدة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وأن الوصول إلى الفراغ أو الفوضى يلحق به أذى بديهياً. فنبيه بري لاعب الدور المحوري اليوم، يفقد كل دوره وموقعه في حال حصول الفراغ الرئاسي. ذلك أن ما يقدمه من رئاسته المجلس النيابي، يظل قائماً ما دامت المؤسسات الدستورية قائمة. أما في سيناريو الفوضى وصراع السلطتين وموازين الأمر الواقع، فهو سيتحول إلى ورقة أو هيكل شكلي.
وتؤكد الأوساط المعنية أن تقديم هذه القراءة لدور نبيه بري، لم يكن ضرورياً بالنسبة إلى قريطم وحسب، بل أيضاً وأكثر بالنسبة إلى عوكر، حيث كانت ثمة نظرية تقول بعدم صدقية رئيس المجلس وسعيه في هذه المرحلة.
وفي المقابل كان ضرورياً أيضاً نقل قراءة مقابلة، مفادها أن سعد الدين الحريري، في عمق قراءته وقراره، ليس ما يقوله حلفاؤه، ولا هو صدى متأثر أو ترداد منفعل لما يعلنه «صقور» فريقه. فالحريري الشاب صاحب علاقات خارجية أكثر تأثيراً في موقفه من مصالح بعض المتضررين إلى جانبه من أي حل أو تسوية. وهو يمثل فريقاً سياسياً وشبه جماعة لبنانية تدرك مقتضيات النظام اللبناني ومقولات الجيوبوليتيك. وبالتالي فإن سيد قريطم الجديد ليس في وارد اعتماد السياسات الانتحارية. وتذكر الأوساط نفسها أن رسالة واضحة أعطيت في هذا السياق، وذلك من باب السعي إلى إعادة بناء الثقة بين المواقع المعنية مفادها بكلام حرفي: «في النهاية، تذكروا أنني ابن رفيق الحريري».
وتكشف الجهات المطلعة، أن النقطة الثانية بعد تأكيد قاسم الثقة المشتركة، كانت محاولة البحث عن خطوة أولى. وفي هذا المجال طرح في قريطم التخوف من «الشروط التي تضمنتها مبادرة بري، وساد حيالها إحساس بأن التجاوب معها سيؤدي إلى فخ يدخل الموالاة في دوامة في الوقت الضائع. وفي سبيل معالجة هذا التخوف، استنبط طرح جديد، يقول بالتركيز على التوافق على شخص الرئيس، بدل التشديد على مسألتي النصاب والعودة إلى الحوار. ولم يلبث هذا الطرح أن نقل إلى عين التينة، من زاوية تسهل المهمة، على قاعدة أن يتوقف نبيه بري عن تكرار حرفية مبادرته، وأن يكتفي ضمناً بالاقتناع بأن أي آلية للتوافق على اسم رئاسي تشمل حكماً وفعلاً الحل المطلوب لمعضلة النصاب والحوار اللازم لمقاربة الاستحقاق.
وفي المقابل كان ثمة تخوف لدى «ممثلية» القوى المعارضة، من أن يكون التراجع عن حرفية مبادرة بري، مدخلاً إلى الفراغ الرئاسي، على قاعدة الإفادة من ثقل صلاحيات الرئاسة إلى فؤاد السنيورة، أو الذهاب أبعد وانتخاب رئيس جديد خلافاً للدستور، في ظل دعم دولي يسعى إلى تكريس الأمر الواقع الجديد، شرعية لبنانية بالقوة.
وفي هذا السياق كانت المساعي قد تمكنت من بلورة ضمانات ثنائية في قريطم وبكركي للمعارضة بعدم انزلاق فريق الموالاة إلى هذا المحذور.
وتؤكد الجهات المتابعة نفسها، أنه بعد التوصل إلى حلحلة تلك العقد، بدأت الخطوات التنفيذية. طلب نبيه بري إشارة إيجابية لقاء صمته حيال مسألة النصاب، فنقل الطلب إلى قريطم. صدرت الإشارة المطلوبة عبر اتصال هاتفي من الحريري إلى رئيس المجلس في سياق بداية شهر رمضان. بعدها كانت الروزنامة تتضمن محطات ثابتة: يصعد بري إلى بكركي ليبحث مع البطريرك في أسماء محددة، يحملها بري إلى فريق المعارضة، ويحملها الوسطاء أنفسهم إلى فريق الموالاة. مع الاتفاق على أن يعمد كل فريق إلى ترتيب لائحة المرشحين وفق أولوية خياراته، ثم تتم مقارنة الترتيبين لتحديد احتمالات التقاطع بينهما، تمهيداً للإجماع على اسم واحد.
في هذه اللحظات بالذات، اغتيل أنطوان غانم. توقفت كل المساعي. تجمدت المراحل التي كانت قد تحققت، وانطلق مجدداً الكلام الأخطر، وهو الكلام غير المنبثق من العدم. فمنذ أكثر من أسبوعين، وتحديداً منذ 28 آب الماضي، كان سفير دولة عربية ناشطة في الأمم المتحدة في نيويورك، قد أسرّ لزملائه بأن هناك مخططاً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وفق عملية قيصرية: تقع عملية اغتيال في بيروت، ترتفع أصوات مطالبة نيويورك بمظلة دولية لخطوة رئاسية أحادية، تتحمس واشنطن، تسكت باريس تحت تهويل مسلسل الدم، وتذهب بيروت إلى انتحارها بعيون مفتوحة، لأن حسابات المتضررين من أي تسوية، تقتضي الوصول إلى سياق الرئيس كيفما كان، وبأي ثمن كان. مات أنطوان غانم، عاشت الحرب، إلا إذا لم تنفجر مساعي قريطم ـــ عين التينة ـــ بكركي، مع جريمة سن الفيل.