strong> فداء عيتاني
«لم تمثّل الحركة الجهادية في لبنان التي قام بها بسام كنج أيّ رافعة أو موطئ قدم للعمل الجهادي، فقد تم ضربها. بجانبيها المعنوي والمادي، فلم يخرج أي تيار جهادي عقبها كما حصل بعد ضربات 11 أيلول»، كما يقول من تابع ملف كنج تفصيلاً

اكتشاف روسي للاتصالات بكنج وتحذير أميركي وملاحقات


يحمل من بقي من مجموعة الضنية في ذاكرته ما حصل من سوء تفاهم في صيدا حين دخول الجيش اللبناني في تموز 1991، «حيث كانت الاتصالات مع الجماعة الإسلامية وقيادة الجيش تفيد أن الجيش سيكتفي بتطويق مخيم عين الحلوة، ولن يدخل الى المعسكر التابع لقوات الفجر، من الجيش دخلت الى المعسكر، وحاول بعض الشبان رفض تسليم سلاحهم الى الضابط اللبناني، فأطلق النار على شابين مباشرة، وأزيل المعسكر، رغم الاتفاق مع الجماعة على كون المعسكر تابعاً للمقاومة» بحسب أحد الناجين من الضنية.
يصنف هؤلاء عملية اغتيال نزار الحلبي كـ«رد فعل فردي»، معتبرين أن عصبة الأنصار «حاولت استغلالها» بينما لم يكن للفاعلين ارتباط جدي بأي بمجموعة، «وربما حصل توافق نظري على نقطة عملية الاغتيال لكن لم يكن هناك توافقات فكرية كبيرة». واشتهرت عصبة الأنصار عقب هذه العملية.
وكان «رد الفعل» هذا، على ما يجري في المساجد من تعرض للمصلين، وضرب في الشوارع لأنصار مذاهب معينة وتكفيرهم، وانتشار الطعن بالسكاكين، وكان الجيش السوري في لبنان يعتبر «جمعية المشاريع» العصا التي يستخدمها لضبط الشارع السني، وكانت ممارساتها قد بدأت منذ عام 1987، حين دخلت مجموعة من جمعيّة المشاريع إلى مسجد في طريق الجديدة وتعرضت للمصلين بالسكاكين، ثم تمّ اعتقال كل المصلين في مركز للمخابرات السورية» كما يقول أحد الناجين من الضنية.
ركّز الجو السلفي في التسعينات على مواجهة الجانب العقدي (العقائدي) بالمحاججة الفكرية والعملية. وحينئذ كان عدد الملتحقين بالجهاد خارج لبنان محدوداً، ورغم أن كوادر «التوحيد الإسلامي» فر أغلبهم من الشمال، وسافر منهم من سافر، فإن الذهاب الى أفغا نستان والشيشان والبوسنة لم يجذب العديد منهم، ولا من اللبنانيين الإسلاميين.
غادر بسام كنج (ابو عائشة) لبنان إلى الولايات المتحدة، عام 1988، أي في المرحلة الأخيرة من الجهاد الأفغاني ضد السوفيات، وفي نهاية العام قرر السوفيات الانسحاب وبقيت القوات الأفغانية تقاتل المجاهدين بمفردها، وفي تلك الفترة، توجّه كنج الى أفغانستان، وكان قد شارك في معارك طرابلس عام 1985 سائق سيارة إسعاف. كما شارك يوم الإنزال الإسرائيلي في جزيرة الأرانب، وحينها كان التزامه الديني بسيطاً.
تحمّس كنج في مرحلة افغانستان، وكانت البيئة التي احتضنته مقربة من المجاهدين، «وكان الجهاد حينها حلالاً لدى الأميركيين ولدى الأنظمة العربية من السعودية الى مصر الى غيرهما»، كما يقول من عرف كنج يومئذ. شارك كمج في افغانستان لمدة عام، والتحق بمعسكر التدريب في بيشاور، ومن ثم بالجبهة، وعمل أولاً في الدفاع المدني ثم مترجماً لمصلحة مجلة يصدرها المجاهدون.
وصل كنج الى الخط الأمامي في المواجهات وأصيب، وحصل تقدم للجيش الأفغاني، وبقي بضعة اشهر في المستشفيات للعلاج، وبعد أشهُر من النقاهة، عاد الى أميركا ليكمل علاجه. «لا تتميز تجربة كنج في أفغانستان عن تجربة العديد من العرب، الذين ذهبوا لقضاء اسابيع كإجازة صيفية ودخلوا بضعة أيام في المعسكرات التدريبية قبل أن ينتقلوا الى الجبهات لسماع أصوات الرصاص قبل عودتهم لمتابعة دراساتهم الجامعية»، كما يقول أحد زملائه حينئذ.
هناك فترة من الصعب ملاحقة بسام كنج فيها، وهي الممتدة من عودته الى الولايات المتحدة ومن ثم عودته الى لبنان عام 1998، ومع وصوله الى لبنان بدأ بالعمل، وجمع حوله مجموعة من الشبان في منطقته في الشمال، وأنشأ حلقات تدريس، وحينئذ كان الإسلاميون يعيشون تحت ضغط من أجهزة الأمن في لبنان.
وبدأت الأمور تتراكم على نحو جدي حين تلقّى كنج اتصالاً خارجياً طلب منه تسهيل مرور «مجموعة من الإخوة من خارج لبنان الى فلسطين» بحسب أحد الذين اعتقلوا لاحقاً في إطار الضنية، وكان المشروع يتمثّل بإدخال عدد من المجاهدين العرب، أغلبهم فلسطينيون، الى لبنان على أن يوصلهم كنج الى الحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية، فيتدبّرون أمورهم من هناك، وكان الجنوب لا يزال تحت الاحتلال، إلا أن الوضعين المحلي والميداني لم يسمحا بحركة كهذه، أضف التعقيدات التقنية. «المجاهدون القادمون نحو فلسطين هم من الذين سئموا ما كان يحصل في أفغانستان آنذاك، وقرروا الرحيل إمّا الى بلادهم، أو إلى الشيشان» كما يقول معتقل سابق.
واستقر رأي كنج ومن كان معه على دعوة الإخوة في الخارج لإمهالهم سنيتن في سبيل إعداد مجموعات قادرة على القيام بالمهمة، ولإنشاء قواعد عمل في لبنان تكون منصات خلفية لهذه العمليات. حتى لا يحصل في لبنان كما حصل في العديد من الدول العربية مع ما يسمّى الأفغان العرب، إذ استُدرجوا الى المواجهات وفتحت لهم ملفات كانوا في غنى عنها.
كان البديل إنشاء مجموعات مقاومة لبنانية، تشارك في العمليات ضد اسرائيل، ويمكنها حمل ثقل مشاركة مجاهدين عرب، وتمكنهم من العبور نحو فلسطين، على شرط اكتساب شرعية في المقاومة في لبنان.
بدأ كنج بحلقات دينية عادية، وكان المجال متروكاً أمام الإسلاميين للعمل في امور الدعوة، رغم القمع الذي كان سائداً حينئذ. وفي منتصف 1999 أنشئ المخيم في الضنية وكان من نشاطاته التدريب العسكري اضافة الى التعليم الديني، وبدأ يلتحق عدد من الشبان من طرابلس سواء لممارسة الرماية النارية او تلقي علوم دينية. وكان كنج يحاول اختيار العناصر الصالحة للمتابعة.
لسوء حظ كنج رصدت المخابرات الروسية الاتصال الذي جرى معه، وكان في تلك الفترة السفير الروسي اوليغ بيريسيبكين ينشط في جولاته على المراجع السياسية ويبشر بقرب الانسحاب الإسرائيلي على قاعدة قرار الأمم المتحدة الرقم 425، كما أن المخابرات الروسية ارسلت وفداً أمنياً الى لبنان، أطلع عدداً من المسوؤلين اللبنانيين على فحوى الاتصال وعلى وجود مجموعات أمنية اسلامية في شمال لبنان تملك اتصالات مع مجموعات أصولية خارجية.
وحين تناهت معلومات لكنج عن الأمر، وأن هناك من يبحث عنه وعن المجموعة في الشمال، لم يعطِ الموضوع كبير أهمية، وبدّل اسمه الحركي بما يشبه المزاح من ابو عائشة الى أبو أحمد. وكانت المخابرات اللبنانية قد بدأت تسأل في طرابلس عن ابو عائشة، وتحولت الملاحقة الى حجم لا يمكن تداركه بتدابير بسيطة.
وصلت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت الى بيروت في زيارة نادرة، وتحدثت عن وجود أصولية في شمال لبنان، وأن هذه الأصولية تمثّل تهديداً لعملية السلام، وهو ما رأت المجموعات الجهادية أنه إشارة واضحة موجّهة الى دمشق تحديداً بضرورة إنهاء وجود القوى الأصولية.
في المخيم، كان هناك ضياع في الهدف الفكري والعقائدي، وكان ما يجمع الناس هو البحث عن فرصة للعمل في المقاومة. وكانت تجري محاولات للاتصال ببقايا «التوحيد» في القرعون وهؤلاء سبق لهم المشاركة في مقاومة الاحتلال. والقرعون كانت مدخل المثلث السني في منطقة الجنوب اللبناني حيث كان يمكن المجموعات الجهادية التحرك بحرية نسبية.
بدأت شرارات المواجهة بعد طول ملاحقة حين جرت محاولة اعتقال عبد الله هزيم، وكان هزيم مطلوباً للتحقيق بتهمة تفجير الكنائس، ووصلت دورية لاعتقاله، فطلب منهم عدم الاقتراب منه. وكان هزيم قد أمضى تسعة أعوام في سجن تدمر، وحين حاولوا اعتقاله بالقوة أطلق النار من مسدس 5 ملم، وأصاب عريفاً في يده ثم هرب هو وعنصران آخران. وكان هزيم يتعمد ألّا يحمل مسدساً قاتلاً حتى لا يتورّط في القتلاتصل هزيم بـ«أبو عائشة» وأخبره بما جرى فطلب منه الأخير الالتحاق بالمخيم، ورافق هزيم عدد من الشبان، والأرض التي يقع عليها المخيم كان يملكها الشبان، وكانوا يرون أنه، مع بدء موسم الشتاء، لن يزور المنطقة مدنيون.
ازداد ضغط قوى الأمن في طرابلس، مما دفع بالعديد من الشبان الى الاتصال بأبو عائشة. وكان هو يبلغهم أن من يخاف على نفسه من الملاحقات فليلتحق بالمخيم، حتى لا يتعرض الشبان للملاحقة والتعذيب، فالتحقوا بالمخيم لقضاء صيام رمضان القريب خارج السجن.
استخرج ابو عائشة وهزيم السلاح الذي يملكانه، وأعادا توضيبه وإخفاءه في أماكن أخرى أكثر أماناً. وكان ثمة عدد من الشبان لديهم تجربة عسكرية مع «التوحيد الإسلامي»، وبعضهم يتقن استخدام السلاح، إلا أن كنج لم يجهز أياً من هؤلاء بالسلاح على نحو يسمح بخوض مواجهة، بل اكتفى ببعض الأسلحة التي تمثّل حماية وتُستخدم للتدريب.
على المستوى الفكري كانت الآراء بين عناصر المجموعة متضاربة ومتباينة، وكان السلفيون في الشمال قد نجحوا في استقطاب عدد من اعضاء «التوحيد» بعد ضرب الحركة. إلا أن الحركة السلفية لم تصل في استقطابها الى حد التثقيف الايديولوجي بل كانت تقدم تعليماً دينياً أولياً لهذه العناصر.
واتصل عدد من المسؤولين المحليين بـ «أبو عائشة»، وكان من جملة الذين أعلنوا وجود مجموعات مسلحة في جرود الضنية، احمد فتفت، وكان نائباً عن الضنية، إلا أن الأجهزة الأمنية التي أشار فتفت الى علمها بالتحاق الشبان بمعسكر حربي لم تحل دون الالتحاق بالمخيم، رغم بقاء الضغط على الشيان في طرابلس.
اعتقد ابو عائشة أن علم أجهزة الدولة بوجودهم معناه غض النظر عنهم، وان مواجهات لن تحصل، مفضلاً المواجهة على تسليم نفسه للسوريين. وفي تلك الفترة التحق جميل حمود بالمجموعة تاركاً بيروت، ليجد أكثر من 30 مقاتلاً ولاجئاً مجتمعين في الجرود. وكان أبو عائشة يرى أن من ضمن المجموعة أربعة أو خمسة أشخاص فقط يمثّلون النواة للعمل، أبرزهم عبد الله هزيم وأحمد اليوسف ورضوان رستم، وكان هؤلاء يشكلون نوعاً من القيادة العسكرية، وأصبحوا يتخذون القرارات المباشرة. وكان هناك العديد من الشبان يتعرف لأول مرة بكنج، ومنهم بلال محمود (ابو جندل)، وأشقاؤه، وسعيد وممتاز الميناوي، وشقيقهما خالد الذي لم يبلغ السادسة عشرة.
كان كنج يتلقى اعتراضات من المحيطين به تتركّز على أن من يجمعهم في المخيم لا يصلحون للقتال، وأنه يراكم أسباب الملاحقة من جانب الجيش والقوات السورية، وبالتالي يحصل أسّ العمل الذي يفترض أن يتم تنفيذه على المدى البعيد. وكان كنج يجيب إنه لا يملك خيارات.




مجموعة الضنية ... في سوريا

يقول من يعرف عبد الله هزيم واختبره في المعتقلات السورية إنه قاد فصيلاً في «التوحيد»، وسجن مرتين في سوريا، وبرز ميل لديه الى السلفية الجهادية في مراحل أخيرة من عمله قبل أن تندلع معارك الضنية. ولم تكن مجموعة الضنية تعد لمعركة ولكن عبد الله هو من ورطّها فيها، حيث كان يقوم ببعض الأعمال الأمنية من خارج سياق تنظيم بسام كنج، واتّهم بعمليات تفجير كنائس».
كان بسام كنج يعمل في أطر أبعد من طرابلس، ويمتدّ الى داخل مجموعات إسلامية أصولية في سوريا، قبض عليهم لاحقاً ولم يعلن عنهم، وكان اسم هذه المجموعات السورية «جند الشام» (وهم غير المجموعة المعروفة بالاسم نفسه في مخيم عين الحلوة)، وقامت سوريا حينها بعملية عزل. حتى خالد الميناوي اعتقل في سوريا لا في لبنان، (في 5 أيار 2003 أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة حكمها على مجموعة متهمة بالانتماء إلى «القاعدة». وكانت المجموعة قد اعترفت بُعيد اعتقالها في فترة قريبة من اعتقال مجموعة الضنية بأنها كانت تخطّط لإنشاء شبكة دعم لـ «القاعدة» في لبنان وإيواء أعضاء من لتنظيم.
اكتشف بعض السجناء من الجهاديين اللبنانيين في السجون السورية عام 2000 أن هناك معتقلاً إسلامياً سورياً يبلغهم أنه من «جند الشام» واسمه منير حاووط، وأنه اعتقل في إطار عملية الضنية ولكن «على الجانب السوري»، ليفهموا لاحقاً أن عملية الضنية كانت الجزء المكشوف من مطاردة «القاعدة» في المنطقة، أمّا الجزء الخفي فكان يحصل في سوريا. وحكم على منير حاووط عام 2000 بالسجن 12 سنة. كما التقى المعتقلون اللبنانييون المئات من المجموعات السلفية الذين صنّفوا من مجموعات «الهجرة والتكفير» السورية.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر