نقولا ناصيف
من الآن وحتى 23 تشرين الأول، موعد الجلسة الثانية لمجلس النواب لانتخاب الرئيس المقبل للجمهورية، ستتسع دائرة التكهنات في مسار المشاورات السرية والعلنية، واحتمال التوافق على اسم الرئيس الجديد أو انقياد طرفي النزاع إلى مجازفاتهما الخطرة. إلا أن الفسحة المتاحة هذه تحمل كلاً من قوى 14 آذار والمعارضة على مراجعة حساباتهما، وهما على أبواب أحد خيارين مكلفين لكليهما: رئيس توافقي أو انهيار شامل. ولأن هذه المراجعة أضحت واقعاً ملموساً، فإن رئيس المجلس نبيه بري كان قد حسم موعد الجلسة الثانية، بين 17 و 23 تشرين الأول، في المكالمتين الهاتفيتين اللتين أجراهما برئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، غداة اغتيال النائب الراحل أنطوان غانم الأربعاء الفائت (19 أيلول).
مذذاك اتضحت الوجهة الجديدة لاستحقاق توقّع بري أن يمر بمخاض صعب تحت وطأة الجريمة. تأجل لقاؤه بالبطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بعدما تقرّر حينذاك إلى موعد آخر، وبذل جهداً مزدوجاً: استيعاب الغضب الناجم عن اغتيال غانم على نحو أظهر لبعض قوى 14 آذار أن الأوان قد حان لتجاوز موعد الجلسة الأولى لمجلس النواب، والتفرّد في انتخاب رئيس للجمهورية من مرشحي هذه القوى بنصاب النصف زائداً واحداً. وكانت قد بلغت إلى رئيس المجلس معطيات تصب في هذا المنحى، لم يخف يومذاك قلقه من آثار هذه المجازفة. كان عليه كذلك إمرار جلسة 25 أيلول بلا خضات، فتكون فاتحة مشاورات جدية حيال الاستحقاق الرئاسي وتحقيق التوافق عليه.
لكن واقع الأمر أن المدة الفاصلة عن الجلسة الثانية، في 23 تشرين الأول، لن تقتصر على مشاورات التوافق على اسم الرئيس الجديد للجمهورية فحسب، بل ستحمل وزر مراجعة يجريها كل من القوى المنضوية في صفوف 14 آذار والمعارضة في مواجهة مشكلات كل منهم مع الاستحقاق الرئاسي.
أول هؤلاء، رئيس المجلس نبيه بري، المعني بتحقيق هدفين مباشرين في الاستحقاق الرئاسي هما: إبقاء النزاع الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة في نطاقه السياسي وتجنيبه انتقاله إلى صدام في الشارع، وإثبات قدرته على أن في وسعه أن يكون هو صانع «الملك». والملك، هذه المرة، هو رئيس توافقي للجمهورية يتطلب مخاض إخراجه جهداً استثنائياً. ويبدو هذان الهدفان المهمة الأشق لدى بري لدوافع تتصل برغبته في تفادي أي خيارات خطرة يُقدم عليها كل من الفريقين تمثّل تهوراً قد تتعذّر السيطرة عليه إذا انفجر. لا هو مع انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً، ولا مع حكومة ثانية في مواجهة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي يطعن في شرعيتها الدستورية، ولا حكماً مع فوضى تضرب البلاد من جراء هذين الخيارين على السواء، وهو يضعهما في منزلة مدمّرة واحدة. ويدرك كذلك أنه لا موقع له في خيارات كهذه، فضلاً عن أنها تجرّده تماماً من الدور والموقع اللذين أناطهما به الدستور والأعراف، كما بأسلافه من قبل، لإنجاح إجراء انتخابات الرئاسة الأولى. وهو أيضاً مغزى الصلاحية الدستورية الممنوحة له بدعوة المجلس إلى الانعقاد مرة واحدة، وبتحديد أكثر من موعد لأكثر من جلسة لانتخاب الرئيس الجديد بغية تكريس أوسع اتفاق وتفاهم على إخراج طبيعي للاستحقاق الرئاسي. وفي حصيلة الأمر لا يعني إبقاء الخلاف في نطاقه السياسي إلا إحدى الوسائل الضرورية للوصول إلى التوافق على إمرار الاستحقاق الرئاسي.
وفي واقع الأمر يتوخى بري استعادة الدور التقليدي لرئيس المجلس الذي كان لأسلافه، ولسنوات طويلة، أحد مصادر قوة رئيس المجلس ودوره حتى عندما كانت ولايته سنة واحدة فقط، هو أنه أقوى الناخبين المحليين في إمرار الاستحقاق الرئاسي، مدركاً توازن القوى المحلي والإقليمي المحيط به. وهو الدور الذي نجح فيه الرئيس كامل الأسعد عندما أدار انتخاب الرؤساء إلياس سركيس عام 1976 وبشير وأمين الجميل عام 1982، والرئيس حسين الحسيني في انتخاب الرئيس رينيه معوض عام 1989. وهو أيضاً الدور نفسه ـــــ وإن معكوساً ـــــ الذي اضطلع به الأسعد عندما وضع بالاتفاق مع المعارضة العراقيل في طريق تجديد ولاية الرئيس فؤاد شهاب عام 1964 عبر مسعى «الاستئناس» ـــــ والعبارة للنائب الراحل جان عزيز ـــــ فأحجم الرئيس عن الموافقة على تجديد ولايته، وهو كذلك الدور الذي قام به الرئيس صبري حمادة في انتخابات 1970 منحازاً ـــــ ورئيس الحكومة حينذاك الرئيس رشيد كرامي ـــــ إلى المرشح الشهابي إلياس سركيس عندما تحفظ عن إعلان نتيجة الاقتراع بذريعة أن صوت الفوز للمرشح سليمان فرنجية كان نصف صوت، لا تكتمل به الأكثرية المطلقة في دورات الاقتراع التالية للدورة الأولى.
وثاني هؤلاء، حزب الله الذي يفترض أنه، من الآن، يتحوّط للخسائر التي تنتظره في استحقاق 2007، ويحاول تقليل نتائجها عليه. وقد يكون أهمها على الإطلاق أنه سيفقد، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، داعماً استثنائياً لن يعثر على نظير له هو الرئيس إميل لحود. والأصح أيضاً أن ما أعطاه لحود، قائداً للجيش 9 سنوات ورئيساً للجمهورية 9 سنوات أخرى، لن يجده الحزب في أي رئيس آخر بمن ذلك حليفه القوي الرئيس ميشال عون إذا انتخب رئيساً. وسواء اضطلع لحود بدوره هذا على مرّ السنوات المنصرمة اقتناعاً أو تحت وطأة الضغط السوري، فإنه أعطى حزب الله غطاءً سياسياً لا نظير له أبقاه خارج سيطرة السلطة اللبنانية: سلّم له بالبقاء قوة مسلحة، ووفّر له ظروفاً غير مشروطة للتحرّك والتسلّح والتجنيد والمراقبة والعمل الأمني السرّي حماية للمقاومة، وجعل رئيس الجمهورية نفسه ممثلاً رسمياً وشرعياً، وكذلك الحكومات المتعاقبة في السنوات الـ9 الأخيرة، لحزب الله لدى السفارات الأجنبية والدول، فضلاً عن تنسيق مفتوح بين الحزب والأجهزة الأمنية على نحوٍ تبنّى كل خيارات المقاومة. وليست هذه، في أي حال، الظروف والشروط التي يتوقعها الحزب من أي رئيس مقبل للجمهورية، بعدما انسحبت سوريا من لبنان وأضحى سلاح المقاومة على طاولة التفاوض والحوار، والأهم كذلك، بالنسبة إلى قوى 14 آذار وخصوصاً جنبلاط، أنه أمسى تحت الشبهة لا فوقها.
وثالث هؤلاء، هو عون الذي يقف، بترشحه وبخلافه الحاد مع قوى 14 آذار على هذا الترشح وسواه، على طرف نقيض من التوافق، ما لم يكن هذا التوافق على انتخابه هو. على أن التوافق على رئيس آخر، أياً يكن، يعني بالنسبة إلى العماد أن عليه تعويض ما لا يمكن تعويض فقدانه، وهو وصوله إلى رئاسة الجمهورية. اللهم إلا إذا كان المقصود الخوض معه في حصة كبيرة في تمثيله في أولى حكومات العهد الجديد. ولن تكون هذه الحصة المقنعة والمبرّرة.